قال ابن فضل الله : (وقد كتبت له صورة المبايعة وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
{إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} إلى قوله: {عظيما}
هذه بيعة رضوان وبيعة إحسان، وجمعة رضا يشهدها الجماعة، ويشهد عليها الرحمن، بيعة يلزم طائرها العنق، وتحوم بشائرها، وتحمل أنباءها البراري والبحار مشحونة الطرق.
بيعة يصلح الله بها الأمة، ويمنح بسببها النعمة، ويتجارى الرفاق، ويسري الهناء في الآفاق، وتتزاحم زهر الكواكب على حوض المجرة الدقاق.
بيعة سعيدة ميمونة شريفة، بها السلامة في الدين والدنيا مضمونة، بيعة صحيحة شرعية، بيعة ملحوظة مرعية.
بيعة تسابق إليها كل نية، وتطاوع كل طوية، ويجمع عليها شتات البرية، بيعة يستهل بها الغمام، ويتهلل البدر التمام.
بيعة متفق على الإجماع عليها، والاجتماع لبسط الأيدي إليها، انعقد عليها الإجماع، فاعتقد صحتها من سمع الله وأطاع، وبذل في تمامها كل امرئ ما استطاع، حصل عليها اتفاق الأبصار والأسماع، ووصل بها الحق إلى مستحقه وأقر الخصم وانقطع النزاع.
[ ص: 744 ] تضمنها كتاب مرقوم يشهده المقربون، وتلقاه الأئمة الأقربون: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس وإلينا ولله الحمد وإلى بني العباس.
أجمع على هذه البيعة: أرباب العقد والحل، وأصحاب الكلام فيما قل وجل، وولاة الأمور والحكام، وأرباب المناصب والأحكام، وحملة العلم والأعلام، وحماة السيوف والأقلام، وأكابر بني عبد مناف، ومن انخفض قدره وأناف، وسروات قريش ووجوه بني هاشم والبقية الطاهرة من بني العباس، وخاصة الأئمة وعامة الناس.
بيعة ترى بالحرمين خيامها، وتخفق بالمأزمين أعلامها، وتتعرف عرفات بركاتها، وتعرف بمنى، ويؤمن عليها يوم الحج الأكبر، ويؤم ما بين الركن والمقام والحجر، ولا يبتغى بها إلا وجه الله الكريم.
بيعة لا يحل عقدها، ولا ينبذ عهدها، لازمة جازمة، دائبة دائمة، تامة عامة، شاملة كاملة، صحيحة صريحة، متبعة مريحة، ولا من يوصف بعلم ولا قضاء، ولا من يرجع إليه في اتفاق ولا إمضاء، ولا إمام مسجد ولا خطيب، ولا ذو الفتوى يسأل فيجيب، ولا من حشي المساجد، ولا من تضمهم أجنحة المحاريب، ولا من يجتهد في رأي فيخطئ أو يصيب.
ولا محدث بحديث، ولا متكلم في قديم وحديث، ولا معروف بدين وصلاح، ولا فرسان حرب وكفاح، ولا راشق بسهام ولا طاعن برماح، ولا ضارب بصفاح، ولا ساع بقدم ولا طائر بجناح، ولا مخالط للناس ولا قاعد في عزلة، ولا جمع كثرة ولا قلة، ولا من يستقل بالجوزاء لواؤه، ولا من يقل فوق الفرقد ثواؤه.
ولا باد ولا حاضر، ولا مقيم ولا سائر، ولا أول ولا آخر، ولا مسر في [ ص: 745 ] باطن ولا معلن في ظاهر، ولا عرب ولا عجم، ولا راعي إبل ولا غنم، ولا صاحب أناة ولا بدار، ولا ساكن في حضر وبادية بدار، ولا صاحب عمد ولا جدار، ولا ملجج في البحار الزاخرة والبراري والقفار.
ولا من يتوقل صهوات الخيل، ولا من يسبل على العجاجة الذيل، ولا من تطلع عليه شمس النهار ونجوم الليل.
ولا من تظله السماء وتقله الأرض، ولا من تدل عليه الأسماء على اختلافها، وترفع درجات بعضهم على بعض; حتى آمن بهذه البيعة وأمن عليها وأمن بها، ومن الله عليه وهداه إليها، وأقر بها وصدق، وغض لها بصره خاشعا وأطرق، ومد إليها يده بالمبايعة، ومعتقده بالمتابعة، ورضي بها وارتضاها، وأجاز حكمها على نفسه وأمضاها، ودخل تحت طاعتها وعمل بمقتضاها، وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين .
وإنه لما سليمان أبي الربيع الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين كرم الله مثواه، وعوضه عن دار السلام بدار السلام، ونقله مزكي يديه عن شهادة الإسلام بشهادة الإسلام، حيث آثره بقربه ومهد لجنبه، وأقدمه على ما قدمه من مرجو عمله وكسبه، وخار له في جواره فريقا، وأنزله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. استأثر الله بعبده
الله أكبر ليومه، لولا مخلفه... كانت تضيق الأرض بما رحبت، وتجزى كل نفس بما كسبت، وتنبأ كل سريرة ما ادخرت وما خبأت، لقد اضطرم سعير إلا أنه في الجوانح.
لقد اضطرب منبر وسرير لولا خلفه الصالح، لقد اضطرب مأمور وأمير لولا الفكر بعده في عاقبة المصالح.
[ ص: 746 ] ولم يكن في النسب العباسي، ولا في البيت المسترشدي، ولا في غيره من بيوت الخلفاء من بقايا آباء لهم وجدود، ولا من تلده أخرى الليالي وهي عاقر غير ولود، من تسلم إليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم عقد نياتها وسر طوياتها; إلا واحد.
وأين ذاك الواحد؟ هو -والله- من انحصر فيه استحقاق ميراث آبائه الأطهار، وتراث أجداده ولا شيء هو إلا ما اشتملت عليه رداء الليل والنهار.
وهو ولد المنتقل إلى ربه، وولد الإمام الذاهب لصلبه، المجمع على أنه في الأيام فرد هذا الأنام، وواحد، وهكذا في الوجود الإمام، وأنه الحائز لما زررت عليه جيوب المشارق والمغارب، والفائز بملك ما بين المشارق والمغارب.
الراقي في صفح السماء هذه الذروة المنيفة، الباقي بعد الأئمة الماضين ونعم الخليفة، المجتمع فيه شروط الإمامة، المتضع لله، وهو ابن بيت لا يزال الملك فيهم إلى يوم القيامة.
الذي يفضح السحاب نائله، والذي لا يغره عاذره، ولا يغيره عاذله، والذي ما ارتقى صهوة المنبر بحضرة سلطان زمانه إلا قال ناصره: وقام قائمه، ولا قعد على سرير الخلافة إلا وعرف أنه ما خاب مستكفيه ولا غاب حاكمه.
نائب الله في أرضه، والقائم مقام رسوله -صلى الله عليه وسلم- وخليفته وابن عمه، وتابع عمله الصالح ووارث علمه، سيدنا ومولانا عبد الله ووليه: أبو العباس الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين.
أيد الله ببقائه الدين، وطوق بسيفه الملحدين، وكبت تحت لوائه المعتدين، وكتب له النصر إلى يوم الدين، وكب بجهاده على الأذقان طوائف المفسدين، وأعاذ به الأرض ممن لا يدين بدين.
[ ص: 747 ] وأعاد بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعليه كانوا يعملون، ونصر أنصاره، وقدر اقتداره، وأسكن في القلوب سكينته ووقاره، ومكن له في الوجود وجمع له أقطاره.
ولما انتقل إلى الله ذلك السيد ولقي أسلافه، ونقل إلى سرير الجنة عن سرير الخلافة، وخلا العصر من إمام يمسك ما بقي من نهاره، وخليفة يغالب مزيد الليل بأنواره، ووارث نبي بمثله ومثل آبائه، استغنى الوجود بعد ابن عمه خاتم الأنبياء عن نبي يقفى على آثاره، ومضى ولم يعهد، فلم يبق إذ لم يوجد النص إلا الإجماع، وعليه كانت الخلافة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلا نزاع... اقتضت المصلحة الجامعة عقد مجلس كل طرف به معقود، وعقد بيعة عليها الله والملائكة شهود، وجمع الناس له وذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود، فحضر من لم يعبأ بعده بمن تخلف، ولم يربأ معه وقد مد يده طامعا لمزيدها وقد تكلف.
وأجمعوا على رأي واحد استخاروا الله فيه فخار، وأخذ يمين يمد لها الأيمان، ويشد بها الإيمان، ويعطى عليها المواثيق، وتعرض أمانتها على كل فريق، حتى تقلد كل من حضر في عنقه هذه الأمانة، وحط على المصحف الكريم يده وحلف بالله وأتم أيمانه، ولم يقطع ولا استثنى ولا تردد، ومن قطع عن غير قصد... أعاد وجدد.
وقد نوى كل من حلف: أن النية في يمينه نية من عقدت له هذه البيعة، ونية من حلف له وتذمم بالوفاء له في ذمته وتكفله على عادة أيمان البيعة، وشروطها وأحكامها المرددة، وأقسامها المؤكدة; بأن يبذل لهذا الإمام المفترض الطاعة الطاعة، ولا يفارق الجمهور، ولا يظهر عن الجماعة انجماعه، وغير ذلك مما [ ص: 748 ] تضمنته نسخ الأيمان المكتتب فيها أسماء من حلف عليها; مما هو مكتوب بخطوط من يكتب منهم، وخطوط العدول الثقات عمن لم يكتبوا وأذنوا أن يكتب عنهم، حسبما يشهد به بعضهم على بعض، ويتصادق عليه أهل السماء والأرض.
بيعة تم بمشيئة الله تمامها، وعم بالصوب المغدق غمامها، وقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، ووهب لنا الحسن، ثم الحمد لله الكافي عبده، الوافي لمن يضاعف على كل موهبة حمده، ثم الحمد لله على نعمة يرغب أمير المؤمنين في ازديادها ويرهب، إلا أن يقاتل أعداء الله بإمدادها، ويرأب بها من أثر في منابر ممالكه بما بان من مباينة أضدادها.
نحمده، والحمد لله، ثم الحمد لله، كلمة لا يمل من تردادها، ولا يحل بما تفوق السهام من سدادها، ولا يبطل إلا على ما يوجب تكثير أعدادها، وتكبير أقدار أهل ودادها، وتصغير التحقير لا التحبيب لأندادها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تتقايس دماء الشهداء وأمداد مدادها، وتتنافس طرر الشباب وغرر السحاب على استمدادها، وتتجانس رقومها المدبجة وما تلبسه الدولة العباسية من شعارها، والليالي من دثارها، والأعداء من حدادها.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى جماعة أهله ومن خلف من أبنائها، وسلف من أجدادها، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن أمير المؤمنين لما أكسبه الله من ميراث النبوة ما كان لجده، ووهبه من الملك السليماني ما لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمه منطق الطير بما يتحمله حمائم البطائق من بدائع البيان، وسخر له من البريد على متون الخيل ما سخره من الريح لسليمان، وآتاه من خاتم الأنبياء ما امتد به أبوه سليمان وتصرف، وأعطاه من الفخار به ما أطاعه كل مخلوق ولم يتخلف.
وجعل له من لباس بني العباس ما يقضي له سواده بسؤدد الأجداد، وينفض [ ص: 749 ] على ظل الهدب ما فضل عن سويداء القلب وسواد البصر من السواد، ويمد ظله على الأرض وكل مكان دار ملك وكل مدينة بغداد، وهو في ليله السجاد وفي نهاره العسكري وفي كرمه جعفر وهو الجواد، يديم الابتهال إلى الله تعالى في توفيقه، والابتهاج بما يغص كل عدو بريقه.
ونبدأ يوم هذه المبايعة بما هو الأهم من مصالح الإسلام، وصالح الأعمال فيما يتحلى به الإمام، ويقدم التقوى أمامه، ويقرر عليها أحكامه، ويتبع الشرع الشريف ويقف عنده ويوقف الناس، ومن لا يحمل أمره طائعا على العين يحمله غصبا على الرأس، ويعجل أمير المؤمنين بما استقر به النفوس، ويرد به كيد الشيطان إنه يؤوس، ويأخذ بقلوب الرعايا وهو غني عن هذا ولكنه يسوس.
وأمير المؤمنين يشهد الله وخلقه عليه: بأنه أقر ولي كل أمر من ولاة أمور الإسلام على حاله، واستمر به في مقيله تحت كنف ظلاله، على اختلاف طبقات ولاة الأمور وطرقات الممالك والثغور: برا وبحرا، سهلا ووعرا، شرقا وغربا، بعدا وقربا، وكل جليل وحقير، وقليل وكثير، وصغير وكبير، وملك ومملك، وأمير وجندي يبرق له سيف شهير ورمح ظهير.
ومن مع هؤلاء من وزراء وقضاة وكتاب، ومن له تدقيق في إنشاء وتحقيق في حساب، ومن يتحدث في بريد وخراج، ومن يحتاج إليه ومن لا يحتاج، ومن في التدريس والمدارس والربط والزوايا والخوانق، ومن له أعظم التعلقات وأدنى العلائق، وسائر أرباب المراتب وأصحاب الرواتب، ومن له من مال الله رزق مقسوم، وحق مجهول أو معلوم، استمرارا بكل امرئ على ما هو عليه، حتى يستخير الله ويتبين له ما بين يديه.
فمن ازداد تأهيله... زاد تفضيله، وإلا... فأمير المؤمنين لا يريد إلا وجه الله، ولا يحابي حقا في دين الله، ولا يحابي في حق; فإن المحاباة في الحق مداجاة على المسلمين.
[ ص: 750 ] وكل ما هو مستمر إلى الآن مستقر على حكم الله، مما فهمه الله له وفهمه سليمان، لا يغير أمير المؤمنين في ذلك ولا في بعضه مغيرا; شكرا لله على نعمه، وهكذا يجازى من شكر، ولا يكدر على أحد موردا نزه الله نعمه الصافية عن الكدر، ولا يتأول في ذلك متأول إلا من جحد النعمة أو كفر، ولا يتعلل متعلل; فإن أمير المؤمنين يعوذ بالله ويعيذ أيامه من الغير.
وأمر أمير المؤمنين -أعلى الله أمره- أن يعلن الخطباء بذكره وذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق، وأن تضرب باسمهما النقود وتسير بالإطلاق، ويوشح بالدعاء لهما عطف الليل والنهار، ويصرح منه بما يشرق وجه الدرهم والدينار.
وقد أسمع أمير المؤمنين في هذا المجمع المشهود ما يتناقله كل خطيب، ويتداوله كل بعيد وقريب; ومختصره: أن الله أمر بأوامر ونهى عن نواه وهو رقيب، وسيفرغ الألباء لها السجايا، ويفرغ الخطباء لها شعوب الوصايا، وتتكمل بها المزايا، ويخرج من المشايخ الخبايا من الزوايا، ويسمر بها السمار، ويترنم الحادي والملاح، ويرق سحرها في الليل المقمر، ويرقم على جبين الصباح، وتعظ بها مكة بطحاها، ويحيا بحداها فناه، ويلقنها كل أب فهمه ابنه ويسأل كل ابن نجيب أباه.
وهو لكم أيها الناس من أمير المؤمنين من سدد عليكم بينة، وإليكم ما دعاكم به إلى سبيل ربه من الحكمة والموعظة الحسنة، ولأمير المؤمنين عليكم الطاعة.
ولولا قيام الرعايا... ما قبل الله أعمالها، ولا أمسك بها البحر ودحا الأرض وأرسى جبالها، ولا اتفقت الآراء على من يستحق وجاءت إليه الخلافة تجر أذيالها، وأخذها دون بني أبيه:
ولم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها
وقد كفاكم أمير المؤمنين السؤال بما فتح الله لكم من أبواب الأرزاق وأسباب [ ص: 751 ] الارتزاق، وأجركم على وفاقكم وعملكم مكارم الأخلاق، وأجراكم على عوائدكم ولم يمسك خشية الإنفاق.
ولم يبق لكم على أمير المؤمنين إلا أن يسير فيكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعمل بما يتعب به من يجيء -أطال الله بقاء أمير المؤمنين- من بعده، ويزيد على من تقدم، ويقيم فروض الحج والجهاد، وينيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد.
وأمير المؤمنين يقيم على عادة آبائه موسم الحج في كل عام، ويشمل بره سكان الحرمين الشريفين وسدنة بيت الله الحرام، ويجهز السبيل على حاله ويرجو أن يعود على حاله الأول في سالف الأيام، ويتدفق في هذين المسجدين بحره الزاخر، ويرسل إلى ثالثهما في البيت المقدس ساكب الغمام، ويقيم معونة قبور الأنبياء صلى الله عليهم وسلم أينما كانوا وأكثرهم في الشام، والجمع والجماعات هي فيكم على قديم سننها، وقويم سننها، وستزيد في أيام أمير المؤمنين لمن يضم إليه، وفيما يتسلم من بلاد الكفار ويسلم منهم على يديه.
وأما الجهاد... فكفى باجتهاد القائم عن أمير المؤمنين بمأموره، المقلد عنه جميع ما وراء سريره، وأمير المؤمنين قد وكل منه -خلد الله ملكه وسلطانه- عينا لا تنام، وقلد سيفا لو أغفت بوارقه ليلة واحدة عن الأعداء... سلت خياله عليهم الأحلام.
وسيؤكد أمير المؤمنين في ارتجاع ما غلب عليه العدى، وقد قدم الوصية بأن يوالي غزو العدو المخذول برا وبحرا، ولا يكف عمن ظفر به منهم قتلا ولا أسرا، ولا يفك أغلالا ولا إصرا، ولا ينفك يرسل عليهم في البر من الخيل عقبانا، وفي البحر غربانا، تحمل كل منهما من كل فارس صقرا.
ويحمي الممالك ممن يتخوف أطرافها بإقدام، ويتخول أكنافها بأقدام، [ ص: 752 ] وينظر في مصالح القلاع والحصون والثغور وما يحتاج إليه من آلات القتال وأمهات الممالك، التي هي مرابط البنود، ومرابض الأسود، والأمراء والعساكر والجنود، وترتيبهم في الميمنة والميسرة والجناح الممدود.
ويتفقد أحوالهم بالعرض، بما لهم من خيل تعقد ما بين السماء والأرض، وما لهم من زرد موضون، وبيض مسها ذائب ذهب فكانت كأنها بيض مكنون، وسيوف قواضب، ورماح شيب ذوائبها من الدماء خواضب، وسهام تواصل القسي وتفارقها فتحن حنين مفارق، وتزمجر القوس زمجرة مغاضب.
وهذه جملة أراد أمير المؤمنين بها إطابة قلوبكم، وإطالة ذيل التطويل على مطلوبكم، ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم في حماية إلا ما أباح الشرع المطهر، ومزيد الإحسان إليكم على مقدار ما يخفى منكم ويظهر.
وأما جزئيات الأمور... فقد علمتم بأن من بعد عن أمير المؤمنين غني عن مثل هذه الذكرى، وأنتم على تفاوت مقاديركم وديعة أمير المؤمنين، وكلكم سواء في الحق عند أمير المؤمنين، وله عليكم أداء النصيحة; وإبداء الطاعة بسريرة صحيحة; فقد دخل كل منكم في كنف أمير المؤمنين وتحت رقه، ولزمه حكم بيعته وألزم طائره في عنقه، ويستعمل كل منكم في الوفاء بما أصبح به عليما، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما .
هذا قول أمير المؤمنين، وقال: وهو يعمل في ذلك كله بما تحمد عاقبته من الأعمال، وعلى هذا عهد إليه وبه يعهد، وما سوى هذا فجور لا يشهد به عليه ولا يشهد.
وأمير المؤمنين يستغفر الله على كل حال، ويستعيذ به من الإهمال، ويسأل أن يمده لما يحب من الإمهال، ولا يمد له حبل الإمهال.
ويختم أمير المؤمنين قوله بما أمر الله به من العدل والإحسان، والحمد لله، وهو من الخلق أحمد وقد آتاه الله ملك سليمان، والله يمتع أمير المؤمنين بما [ ص: 753 ] وهبه، ويملكه أقطار الأرض، ويورثه بعد العمر الطويل عقبه، ولا يزال على سدة العلياء قعوده، ولدست الخلافة به أبهة الجلالة كأنه ما مات منصوره، ولا أودى مهديه ولا رشيده).
وقال ابن حجر في «الدرر»: (كان أولا لقب: المستنصر، ثم لقب: الحاكم، وذكر الشيخ زين الدين العراقي: أنه سمع الحديث على بعض المتأخرين، وأنه حدث، مات في الطاعون في نصف سنة ثلاث وخمسين).