وما زال أئمة السنة يذكرون هذا، مثل ما ذكره عبد العزيز الكناني صاحب صاحب " الحيدة " المشهور بالرد [ ص: 301 ] على الشافعي الجهمية والقدرية وغيرهم، قال في رده على الجهمية: باب قول الجهمي في قول الله عز وجل: الرحمن على العرش استوى [طه: 5] الجهمية أنما قول الله: الرحمن على العرش استوى إنما المعنى استولى، كقول العرب استوى فلان على زعمت مصر، استوى فلان على الشام، يريد استولى عليها.
- باب البيان لذلك- يقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه؟ فإذا قال: لا، قيل له: فمن زعم ذلك فهو كافر، ويقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك أن الله أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السماوات والأرض، ثم استوى عليه بعد خلق السماوات والأرض قال الله تعالى: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء [هود: 7] فأخبر [ ص: 302 ] أن العرش كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض، ثم قال: الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [الفرقان: 59].
وقوله: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم [غافر: 7] وقوله عز وجل: ثم استوى إلى السماء وهي دخان [فصلت: 11] وقوله عز وجل: ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات [البقرة: 29] فأخبر أنه استوى على العرش، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان العرش فيها قبل خلق السماوات والأرض ليس الله بمستول عليه، إذا كان استوى على معناه عندك استولى، فإنما استولى بزعمه في ذلك الوقت، لا قبل.
قال: وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عمران بن الحصين بني تميم". قالوا: قد بشرتنا فأعطنا. قال: " اقبلوا البشرى يا أهل اليمن". قالوا: قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان. قال: " كان الله قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح ذكر كل شيء" وروي اقبلوا البشرى يا أبي [ ص: 303 ] رزين العقيلي - وكان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم مسألته أنه قال: " يا رسول الله! أين كان الله قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء ثم خلق عرشه على الماء". عن
[ ص: 304 ] [ ص: 305 ] قال: فقال الجهمي: "أخبرني كيف استوى على العرش أهو كما تقول العرب: استوى فلان على السرير فيكون السرير حوى فلانا وحده إذا كان عليه، فيلزمك أن تقول: إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا- باب من البيان لذلك- يقال له: أما قولك: كيف استوى فإن الله لا يجري عليه كيف، وقد أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يخبرنا كيف استوى فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش، وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى لأنه لم يخبرهم كيف كذلك، ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون، فآمنوا بخبره عن الاستواء ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله، ولكن يلزمك أنت أيها الجهمي أن تقول إن الله محدود وقد حوته الأماكن إذ زعمت في دعواك أنه في الأماكن لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد [ ص: 306 ] حواه، كما تقول العرب: فلان في البيت، والماء في الحب، فالبيت قد حوى فلانا، والحب قد حوى الماء، ويلزمك أشنع من ذلك، لأنك قلت أشنع من ذلك، لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى، وذلك أنهم قالوا: إن الله حل في عيسى، وعيسى بدن إنسان واحد. فكفروا بذلك، وقيل لهم ما أعظمتم الله تعالى إذ جعلتموه في بطن مريم، وأنتم تقولون: إنه في كل مكان وفي بطون النساء كلهن وبدن عيسى وأبدان الناس كلهم. ويلزمك أيضا أن تقول: إنه في أجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن وعندك أنه في كل مكان، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قال: " فلما شنعت مقالته: قال: أقول بأن الله في كل مكان، لا كالشيء في الشيء، ولا كالشيء على الشيء، ولا كالشيء مع [ ص: 307 ] الشيء، خارجا عن الشيء، ولا مباينا للشيء. باب البيان لذلك يقال له: إن أصل قولك القياس والمعقول فقد دللت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئا لأنه لو كان شيئا داخلا فمن القياس والمعقول أن يكون داخلا في الشيء أو خارجا عنه، فلما لم يكن في ذلك شيئا استحال أن يكون كالشيء أو خارجا عن الشيء. فوصفت لعمري ملتبسا لا وجود له، وهو دينك وأصل مقالتك التعطيل".