وكان أبو المعالي كثير المطالعة لكتب أبي هاشم فصار هو وغيره يقودون الأصول التي وافق قدماؤهم فيها المعتزلة، فرأوا أن من لوازمها نفي أن يكون الله على العرش، فتظاهروا بإنكار ذلك موافقة للمعتزلة، ولم يكن الخلاف في ذلك مع المعتزلة من المسائل المشهورة لما قدمناه، وأما والقرآن فهي من شعائر المذهبين فجعلوا ينصبون الخلاف مع مسألة الرؤية المعتزلة في مسألة الرؤية ويسلمون لهم نفي علو الله على [ ص: 541 ] العرش، وهذا عكس الواجب.
ولهذا صارت المعتزلة تسخر منهم، حتى يقول قائلهم: من سلم أن الله ليس في جهة وادعى مع ذلك أنه يرى فقد أضحك الناس على عقله، أو نحو هذا الكلام؛ ولهذا صار أكثر مناظراتهم مع الفلاسفة والمعتزلة فيها من الضعف ما أطمع أولئك فيهم وصاروا يفزعون منهم ويجنبون عنهم ويستطيلون على إخوانهم المؤمنين، وبسبب ما وقع في أهل الإيمان والسيف وأهل العلم والقلم أديلت عليهم الأعداء، كما قال تعالى: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا [آل عمران 155] حتى إن بعض الأعيان الذي كان في باطنه ميل إلى الفلسفة والاعتزال ولا يتظاهر بذلك - درس مسألة [ ص: 542 ] الرؤية من جانب المثبتين وذكر حجتهم فيها - ولا ريب أن ذلك يظهر من استطالة المعتزلة عليهم ما يشفي به قلبه.
ولهذا صار حيث يوافقون كثير من أهل العلم والحديث يصف أقوال هؤلاء بأن فيها نفاقا وتناقضا؛ أهل السنة والجماعة على شيء من الحق ويخالفونهم فيما هو أولى بالحق منهم، ويفسرون ما يوافقون فيه بما يحيله عن حقيقته؛ وهذا كله لما وقع من الاشتباه عندهم في هذه المسائل ولما تعارض عندهم من الدلائل.
والله هو المسئول أن يغفر لجميع المؤمنين ويصلح لهم أمر الدنيا والآخرة والدين، إنه على كل شيء قدير.
وهذا القدر الذي يوجد في هؤلاء قد يوجد من جنسه في منازعيهم من أهل الإثبات، بحيث يعظم اهتمامهم لما ينازعون فيه إخوانهم الذين يوافقونهم في أكثر الإثبات من أدق [ ص: 543 ] مسائل القرآن والصفات وغير ذلك؛ بحيث يوالون على ذلك ويعادون عليه، مع إعراضهم عمن هم أبعد من هؤلاء عن الحق والسنة، حتى يفضي بكثير منهم الجهل والظلم إلى أن يحب أولئك ويثني عليهم لما يرى فيهم من نوع خير أو أنه لا يبغضهم ولا يذمهم مع أنه يبغض هؤلاء ويذمهم، وهذا من جهله بحقيقة أحوال الناس ومراتب الحق عند الله ومن ظلمه حيث يكون غضبه لنفسه لما يناله من أذى هؤلاء أحيانا أعظم من غضبه لربه فيما فعله أولئك.
وبذلك أنزل الله كتبه وأرسل رسله، والله تعالى يؤلف بين قلوب عباده المؤمنين على ما يحبه ويرضاه . والدين إنما يقوم بالعلم والعدل المضاد للجهل والظلم،