قلت: وطائفة أخرى تجعل قول النصارى في الأقانيم بمعنى الأجزاء والأبعاض لكن ليس في نقلهم أنهم يوجبون كون الولادة انفصال جزء عن غيره كما يذكر الأولون، قال [ ص: 126 ] أبو عبد الله بن الهيصم: الفصل الرابع، وأما القول في أنه أحدي الذات فإن النصارى زعمت أن الله - جل عن قولهم - أقانيم ثلاثة رب واحد، وفسر بعضهم الأقانيم بأنها الأشخاص، وقال بعضهم إنها الخواص.
قال: وقال أهل التوحيد إن واحتجت النصارى بأنكم قد وافقتمونا على أن الله عز ذكره قد كان لم يزل وله حياة وكلام وذلك ما أردناه بقولنا: أقانيم ثلاثة. الله واحد في ذاته ليس بذي أقانيم ولا أبعاض،
قال: والرد عليهم أن يقال لهم إن الحياة والكلام عندنا صفتان لذاته وليستا في حكم الذات ولا يقع عليهما اسم الله؛ فإن الله هو الموصوف بهما دونهما وليس يصح إضافة شيء من أفعال الربوبية إليهما؛ لأن الحياة والكلام لا يفعلان، وإنما يفعل الحي المتكلم وهو الله الموصوف بهما، وليس كذلك قولكم من قبل أنكم جعلتم الروح والابن أقنومين يتناولهما اسم الله، وأفعال الربوبية عندكم منسوبة إلى مجموع الأب والابن والروح القدس قد جعلتموها بمنزلة أركان الإنسان التي يتناول مجموعها اسم الإنسان وتنسب إلى جملتها أفعاله، وهذا هو [ ص: 127 ] وصفه بالتجزئة والتبعيض وليس ما وصفنا به من الحياة والكلام كذلك.
ثم يقال لهم: وإذ قد كان الله عندنا وعندكم موصوفا بالقدرة والعلم والمشيئة والسمع والبصر والرحمة والعزة كما كان موصوفا بالحياة والكلام فهلا جعلتم هذه كلها أقانيم له؟! وما لكم قصرتم الأقانيم على الثلاثة؟! وفي هذا ما يدل على أنكم لم تذهبوا من الأقانيم مذهب إثبات الصفات له؛ لذلك فرقتم بين هذه الصفات وبينها وإنما ذهبتم فيها مذهب الأبعاض والأجزاء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قلت: مذهب النصارى لكونه متناقضا في نفسه لا يعقل؛ إذ لا حقيقة له كما لا تعقل الممتنعات صاروا يضطربون في قوله فكل طائفة منهم تفسره بغير ما تفسره الأخرى وكذلك يضطرب الناس في نقله؛ فلهذا ذكر هذا أن الأقانيم عندهم أبعاض كأركان الإنسان وإن كان الآخرون من النصارى [ ص: 128 ] لا يقولون ذلك، فإن عندهم كل واحد من الأقانيم إله يدعى ويعبد، مع قولهم إن الثلاثة إله واحد، وبعض الإله ليس هو إلها ولكن عندهم الذات الموصوفة بالأمور الثلاثة مع كل صفة أقنوم، ثم يقولون إن الواحد هو المتحد بالمسيح، فإن كان متحدا لصفة فالصفة ليست إلها يخلق ويرزق وعندهم المسيح إله وإن كان المتحد الذات فيكون المسيح هو الأب والابن والروح القدس إله؛ وهم لا يقولون ذلك وإنما يقولون المتحد به الكلمة التي هي الابن ويقولون هو ابن الله لذلك؛ ويقولون أيضا هو الله لأن المتحد به هو الذات التي هو الله فيجعلون المتحد به هو الذات بصفة دون الذات بالصفتين الأخريين، ومن المعلوم أن الصفات لا تفارق الذات وقد يكونون يقولون كما حكى هذا الأقانيم أبعاض وأجزاء كل منهما إله أيضا.
وإذا عرف أن مراد أئمة هذا القول بنفي التجزي والانقسام ليس هو وجود الانقسام بانفصال بعضه عن بعض ولا إمكان ذلك، وإن كان اللفظ في ذلك أظهر منه في غيره فإن عامة ألفاظهم الاصطلاحية لا يريدون بها ما هو المعروف في اللغة من معناها بل معاني اختصوا هم بالكلام فيها نفيا وإثباتا؛ ولهذا قال فيهم: يتكلمون بالمتشابه من الكلام [ ص: 129 ] ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم. الإمام أحمد