الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه السابع- أن يقال: هذه الوصية مخالفة لما بعث الله تعالى به رسله، وأن يقروهم على فطرتهم التي فطروا عليها، وبذلك جاءتهم الرسل؛ لم يأمروهم باستحداث فطرة غير الفطرة التي فطروا عليها، ولا بتغيير تلك الفطرة، كما أمرهم هؤلاء المبدلون لفطرة الله تعالى وكتبه. والله سبحانه وتعالى قد فطر عباده على الإقرار به وعبادته وحده، قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين [ ص: 480 ] فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون [الروم: 30 - 32 ] وهؤلاء الصابئة المبدلون ومن بدل دينه من اليهود والنصارى وسائر المشركين هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وهم من الذين اختلفوا من بعد ما كانوا أمة واحدة، كما قال تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم [البقرة: 213 ].

ولهذا يوجد بين هؤلاء الصابئة المتفلسفة وغيرهم من الاختلاف والافتراق في أصول الدين أعظم مما يوجد بين اليهود والنصارى؛ لأن أهل الكتاب أقرب إلى الهدى من الصابئين، فمبتدعتهم دون مبتدعة الصابئين، والتفرق والاختلاف في الصابئين أكثر؛ ولهذا فيهم من عبادة الأصنام والكواكب والشرك ما لا يوجد منه في أهل الكتابين، وإن كان قد وجد فيهم من الشرك ما وجد فهو في أولئك أعظم، وهؤلاء وأمثالهم هم الذين بدلوا وغيروا ما فطر الله تعالى عليه عباده وأرسل به رسله، وصار فيهم من الاستكبار وطلب العلو ودعوى التحقيق في العلوم [ ص: 481 ] والمعارف وعلو الهمة في الأعمال ما هم في الحقيقة متصفون به، كما قال تعالى فيهم : إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه [غافر: 56 ] وقال تعالى وتقدس: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا [غافر: 83 - 85 ] وقال تعالى: وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون [الأنعام: 124 ].

وبالجملة فهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل، وسوس الملل، وخطاب القرآن لهم كثير جدا، فإنهم أئمة لأتباعهم، وهم من السادة والكبراء الذين قال الله تعالى في أتباعهم: إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا [الأحزاب: 64- 68 ] وكان [ ص: 482 ] "فرعون موسى " من أكابر ملوك هؤلاء، وقد ذكر الله تعالى في قصته في القرآن ما فيه عبرة، وكذلك "مشركو قريش" الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم أولا كان فيهم الشبه بهؤلاء أن يكونوا أئمة من كفر بعدهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "الناس تبع لقريش في هذا الشأن مؤمنهم تبع لمؤمنهم، وكافرهم تبع لكافرهم".

وكان من أئمة الكفر "الوحيد" الذي قال الله تعالى فيه: [ ص: 483 ] ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا إلى قوله تعالى: إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر [المدثر: 11 - 19 ] فاستعمل نظر أهل المنطق من التفكير الذي يطلب به الحد الأوسط، ثم التقدير الذي هو القياس الذي ينتقل فيه من الحد الأوسط إلى المطلوب، وكذب بكون القرآن كلام الله تعالى، وجعله كلام البشر، وهذا في الحقيقة قول هؤلاء المتفلسفة، كما قد بيناه في غير هذا الكتاب.

فأمر الأمة بقبول وصية أمثال هؤلاء، دون أن يذكر في ذلك ما أوصى الله تعالى به عباده وما وصت به رسله، والوصية متضمنة تبديل فطرة الله تعالى بفطرة أخرى، من أعظم تبديل الفطرة في العلوم والأعمال، وذلك من تبديل دين الله. [ ص: 484 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية