الوجه الخامس والأربعون: أن الأجسام بينها قدر مشترك [ ص: 364 ] -وهو جنس المقدار، كما يقولون ما يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه وبينها قدر مميز- وهو حقيقة كل واحد وخصوص ذاته التي امتاز بها عن غيره -كما يعلم أن الجبل والبحر مشتركان في أصل القدر، مع العلم بأن حقيقة الحجر ليست حقيقة الماء، وإذا كان كذلك فالحس لم يدرك مقدارا مجردا ولا صورة مجردة، ولم يحس قط، إلا جسما مهيئا له قدر يخصه، وصفة تخصه، والخيال إذا تخيل المحسوسات، وهو مع هذا يمكنه تجريد المقدار عن الصفة، فيشكل في نفسه قدرا معينا، أو مطلقا غير مختص بصفة من الصفات، وهو تقدير الأبعاد في النفس، وإذا وصف له الملك فإنه يتخيل صورة مطلقة، وأن لها وجها ويدا تناسبها، من غير أن يتخيل حقيقتها; فإن تخيل نسبة الصفة المخصوصة إلى الموصوف المخصوص، أقرب إلى ما أحسه من تخيل قدر مطلق، والتخيل يتبع الحس، فكلما كان أقرب إلى الحس كان تخيله أيسر عليه.
وهذا ونحوه مما يبين أن تصوير الخيال لما حكاه عن منازعيه من أيسر الأمور; بل لو قال: إن التخيل لا يتصور إلا ما يكون هكذا لا يتصور وصفه بنقيض ذلك، لكان هذا القول أقرب، بل هذا القول الذي ثم المثبتة قالوا: [ ص: 365 ] وهذا حق معلوم أيضا، بالأدلة العقلية والشرعية، بل بالضرورة، وقالت النفاة: إنه قد يعلم بنوع من دقيق النظر أن هذا باطل، فالفريقان اتفقوا على أن الوهم والخيال يقبل قول المثبتة، الذي ذكرت أنهم يصفونه بالأجزاء والأبعاض، وتسميهم المجسمة، فهو يقبل مذهبهم لا نقيضه في الذات. اتفق عليه العقلاء، من أهل الإثبات والنفي: اتفقوا على أن الوهم والخيال لا يتصور موجودا إلا متحيزا أو قائما بمتحيز وهو الجسم وصفاته.