فنقول : هذه الأحاديث لا تناقض ما ذكرناه بل المراد بها : من لم يرد بذلك إلا الدنيا ، كقوله : " من هاجر يبتغي شيئا من الدنيا وكان " ذلك هو الأغلب على همه ، وقد ذكرنا أن ذلك عصيان وعدوان ، لا لأن طلب الدنيا حرام ، ولكن طلبها بأعمال الدين حرام ؛ لما فيه من الرياء ، وتغيير العبادة عن موضعها . وأما لفظ الشركة حيث ورد فمطلق للتساوي وقد بينا أنه إذا تساوى القصدان تقاوما ، ولم يكن له .
ولا عليه ، فلا ينبغي أن يرجى عليه ثواب . ثم إن الإنسان عند الشركة أبدا في خطر ، فإنه لا يدري أي الأمرين أغلب على قصده ، فربما يكون عليه وبالا ؛ ولذلك قال تعالى : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا أي : لا يرجى اللقاء مع الشركة التي أحسن أحوالها التساقط ، ويجوز أن يقال أيضا : منصب الشهادة لا ينال إلا بالإخلاص في الغزو .
وبعيد أن يقال : من كانت له داعيته الدينية بحيث تزعجه إلى مجرد الغزو وإن لم يكن غنيمة ، وقدر على غزو طائفتين من الكفار إحداهما غنية والأخرى فقيرة فمال إلى جهة الأغنياء ؛ لإعلاء كلمة الله وللغنيمة ثواب ، له على غزوه البتة ونعوذ بالله أن يكون الأمر كذلك ، فإن هذا حرج في الدين ، ومدخل لليأس على المسلمين ؛ لأن أمثال هذه الشوائب التابعة قط لا ينفك الإنسان عنها إلا على الندور فيكون تأثير هذا في نقصان الثواب ، فأما أن يكون في إحباطه فلا نعم ، الإنسان فيه على خطر عظيم ؛ لأنه ربما يظن أن الباعث الأقوى هو قصد التقرب إلى الله ، ويكون الأغلب على سره الحظ النفسي وذلك مما يخفى غاية الخفاء .
فلا يحصل الأجر إلا بالإخلاص ، والإخلاص قلما يستيقنه العبد من نفسه ، وإن بالغ في الاحتياط ؛ فلذلك ينبغي أن يكون أبدا بعد كمال الاجتهاد مترددا بين الرد والقبول ، خائفا أن تكون في عبادته آفة يكون وبالها أكثر من ثوابها .
وهكذا كان الخائفون من ذوي البصائر ، وهكذا ينبغي أن يكون كل ذي بصيرة ولذلك قال سفيان رحمه الله لا أعتد بما ظهر من عملي .
وقال جاورت هذا البيت ستين سنة ، وحججت ستين حجة ، فما دخلت في شيء من أعمال الله تعالى إلا وحاسبت نفسي ، فوجدت نصيب الشيطان أوفى من نصيب الله ، ليته لا لي ولا علي . عبد العزيز بن أبي رواد
ومع هذا فلا ينبغي أن يترك العمل عند خوف الآفة والرياء فإن ذلك منتهى بغية الشيطان منه ؛ إذ المقصود أن لا يفوت الإخلاص .
ومهما ترك العمل فقد ضيع العمل والإخلاص جميعا .
وقد حكي أن بعض الفقراء كان يخدم أبا سعيد الخراز وكيف في أعماله فتكلم في الإخلاص يوما يريد إخلاص الحركات ، فأخذ الفقير يتفقد قلبه عند كل حركة ، ويطالبه بالإخلاص ، فتعذر عليه قضاء الحوائج واستضر الشيخ بذلك ، فسأله عن أمره فأخبره بمطالبته نفسه بحقيقة الإخلاص ، وأنه يعجز عنها في أكثر أعماله فيتركها فقال أبو سعيد لا تفعل إذ ؛ الإخلاص لا يقطع المعاملة فواظب على العمل ، واجتهد في تحصيل الإخلاص ، فما قلت لك : اترك العمل ، وإنما قلت لك : أخلص العمل وقد قال أبو سعيد : الفضيل . ترك العمل بسبب الخلق رياء ، وفعله لأجل الخلق شرك