اعلم أنه قد يظن أن سبب هذا الترجيح أن النية سر لا يطلع عليه إلا الله تعالى ، والعمل ظاهر ولعمل السر فضل .
وهذا صحيح ولكن ليس هو المراد لأنه لو نوى أن يذكر الله بقلبه أو يتفكر في مصالح المسلمين ، فيقتضي عموم الحديث أن تكون نية التفكر خيرا من التفكر وقد يظن أن سبب الترجيح أن النية تدوم إلى آخر العمل ، والأعمال لا تدوم وهو ضعيف ؛ لأن ذلك يرجع معناه إلى أن العمل الكثير خير من القليل ، بل ليس كذلك ؛ فإن نية أعمال الصلاة قد لا تدوم إلا في لحظات معدودة ، والأعمال تدوم ، والعموم يقتضي أن تكون نيته خيرا من عمله .
وقد يقال : إن معناه أن النية بمجردها خير من العمل بمجرده دون النية وهو كذلك ولكنه بعيد أن يكون هو المراد إذ العمل بلا نية أو على الغفلة لا خير فيه أصلا ، والنية بمجردها خير ، وظاهر الترجيح للمشتركين في أصل الخير بل المعنى أن وكان العمل من جملة الخيرات ، ولكن النية من جملة الطاعة خير من العمل ، أي : لكل واحد منهما أثر في المقصود ، وأثر النية أكثر من أثر العمل . كل طاعة تنتظم بنية وعمل وكانت النية من جملة الخيرات
فمعناه : نية المؤمن من جملة طاعته خير من عمله الذي هو من جملة طاعته ، والغرض أن للعبد اختيارا في النية وفي العمل فهما ، عملان ، والنية من الجملة خيرهما ، فهذا معناه .
وأما سبب كونها خيرا ومترجحة على العمل فلا يفهمه إلا من فهم مقصد الدين وطريقه ، ومبلغ أثر الطريق في الاتصال إلى المقصد ، وقاس بعض الآثار بالبعض حتى يظهر له بعد ذلك الأرجح بالإضافة إلى المقصود .
فمن قال : الخبز خير من الفاكهة فإنما يعني به أنه خير بالإضافة إلى مقصود القوت والاغتذاء ، ولا يفهم ذلك إلا من فهم أن للغذاء مقصدا وهو الصحة والبقاء ، وأن الأغذية مختلفة الآثار فيها ، وفهم أثر كل واحد ، وقاس بعضها بالبعض ، فالطاعات غذاء للقلوب والمقصود شفاؤها وبقاؤها وسلامتها في الآخرة وسعادتها وتنعمها بلقاء الله تعالى ، فالمقصد لذة السعادة بلقاء الله فقط ولن يتنعم بلقاء الله إلا من مات محبا لله تعالى عارفا بالله ، ولن يحبه إلا من عرفه ولن يأنس بربه إلا من طال ذكره له .