الشرط الرابع : أن يكون كونه منكرا معلوما بغير اجتهاد ، فليس للحنفي أن ينكر على فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر وتناوله ميراث ذوي الأرحام وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار ، إلى غير ذلك من مجاري الاجتهاد نعم ، لو رأى الشافعي شافعيا يشرب النبيذ ، وينكح بلا ولي ، ويطأ زوجته ، فهذا في محل النظر والأظهر أن له الحسبة والإنكار إذ لم يذهب أحد من المحصلين إلى أن المجتهد يجوز له أن يعمل بموجب اجتهاد غيره ولا أن الذي أدى اجتهاده في التقليد إلى شخص رآه أفضل العلماء أن له أن يأخذ بمذهب غيره فينتقد من المذاهب أطيبها عنده بل على كل مقلد اتباع مقلده في كل تفصيل فإذن مخالفته للمقلد متفق على كونه منكرا بين المحصلين وهو عاص بالمخالفة إلا أنه يلزم من هذا أمر أغمض منه وهو أنه يجوز للحنفي أن يعترض على الشافعي إذا نكح بغير ولي بأن يقول له : الفعل في نفسه حق ، ولكن لا في حقك ؛ فأنت مبطل بالإقدام عليه مع اعتقادك أن الصواب مذهب ومخالفة ما هو صواب عندك معصية في حقك ، وإن كانت صوابا عند الله وكذلك الشافعي يحتسب على الحنفي إذا شاركه في أكل الضب ومتروك التسمية وغيره ، ويقول له إما : أن تعتقد أن الشافعي ، الشافعي أولى بالاتباع ثم تقدم عليه أو لا تعتقد ذلك فلا تقدم عليه لأنه على خلاف معتقدك ، ثم ينجر هذا إلى أمر آخر من المحسوسات، وهو أن يجامع الأصم مثلا امرأة على قصد الزنا ، وعلم المحتسب أن هذه امرأته، زوجه أبوه إياها في صغره، ولكنه ليس يدري، وعجز عن تعريفه ذلك ؛ لصممه ، أو لكونه غير عارف بلغته ، فهو في الإقدام مع اعتقاده أنها أجنبية عاص ومعاقب عليه في الدار الآخرة ، فينبغي أن يمنعها عنه مع أنها زوجته ، وهو بعيد من حيث إنه حلال في علم الله قريب من حيث إنه حرام عليه بحكم غلطه وجهله ، ولا شك في أنه لو علق طلاق زوجته على صفة في قلب المحتسب مثلا من مشيئة أو غضب أو غيره ، وقد وجدت الصفة في قلبه ، وعجز عن تعريف الزوجين ذلك ، ولكن علم وقوع الطلاق في الباطن فإذا رآه يجامعها فعليه المنع ، أعني باللسان لأن ذلك زنا ، إلا أن الزاني غير عالم به والمحتسب عالم بأنها طلقت منه ثلاثا وكونهما غير عاصيين ؛ لجهلهما بوجود الصفة ، لا يخرج الفعل عن كونه منكرا ولا يتقاعد ذلك عن زنا المجنون وقد بينا أنه يمنع منه ، فإذا كان يمنع مما هو منكر عند الله ، وإن لم يكن منكرا عند الفاعل ، ولا هو عاص به ؛ لعذر الجهل ، فيلزم من عكس هذا أن يقال : ما ليس بمنكر عند الله إنما هو منكر عند الفاعل ؛ لجهله ، لا يمنع منه ، وهذا هو الأظهر والعلم عند الله فتحصل من هذا أن الحنفي لا يعترض على الشافعي في النكاح بلا ولي وأن الشافعي يعترض على الشافعي فيه لكون المعترض عليه منكرا باتفاق المحتسب والمحتسب عليه ، وهذه مسائل فقهية دقيقة والاحتمالات فيها متعارضة وإنما أفتينا فيها بحسب ما ترجح عندنا في الحال ، ولسنا نقطع بخطأ ترجيح المخالف فيها إن رأى أنه ، وقد ذهب إليه ذاهبون وقالوا: لا حسبة إلا في مثل الخمر والخنزير وما يقطع بكونه حراما ولكن الأشبه عندنا أن الاجتهاد يؤثر في حق المجتهد ، إذ يبعد غاية البعد أن يجتهد في القبلة ويعترف بظهور القبلة عنده في جهة بالدلالات الظنية، ثم يستدبرها، ولا يمنع منه لأجل ظن غيره لأن الاستدبار هو الصواب ورأى من يرى أنه يجوز لكل مقلد أن يختار من المذاهب ما أراد غير معتد به ، ولعله لا يصح ذهاب ذاهب إليه أصلا ؛ فهذا مذهب لا يثبت وإن ثبت فلا يعتد به فإن قلت : إذا كان لا يعترض على الحنفي في النكاح بلا ولي ؛ لأنه يرى أنه حق ، فينبغي أن لا يعترض على المعتزلي في قوله : إن الله لا يرى ، وقوله وإن الخير من الله، والشر ليس من الله، وقوله كلام الله مخلوق ولا على الحشوي في قوله : إن الله تعالى جسم ، وله صورة ، وإنه مستقر على العرش ، بل لا ينبغي أن يعترض على الفلسفي في قوله : الأجساد لا تبعث ، وإنما تبعث النفوس ؛ لأن هؤلاء أيضا أدى اجتهادهم إلى ما قالوه ، وهم يظنون أن ذلك هو الحق فإن قلت : بطلان مذهب هؤلاء ظاهر ، فبطلان مذهب من يخالف نص الحديث الصحيح أيضا ظاهر ، وكما ثبت بظواهر النصوص أن الله تعالى يرى ، والمعتزلي ينكرها بالتأويل ، فكذلك ثبت بظواهر النصوص مسائل خالف فيها الحنفي ، كمسألة النكاح بلا ولي ، ومسألة شفعة الجوار، ونظائرهما فاعلم أن المسائل تنقسم إلى ما يتصور أن يقال فيه : كل مجتهد مصيب ، وهي أحكام الأفعال في الحل والحرمة ، وذلك هو الذي لا يعترض على المجتهدين فيه؛ إذ لم يعلم خطؤهم قطعا، بل ظنا . لا يجري الاحتساب إلا في معلوم على القطع
وإلى ما لا يتصور أن يكون المصيب فيه إلا واحدا كمسألة الرؤية والقدر وقدم الكلام ونفي الصورة والجسمية والاستقرار عن الله تعالى ، فهذا مما يعلم خطأ المخطئ فيه قطعا ولا يبقى لخطئه الذي هو جهل محض وجه فإذن البدع كلها ينبغي أن تحسم أبوابها، وتنكر على المبتدعين بدعهم ، وإن اعتقدوا أنها الحق كما يرد على اليهود والنصارى كفرهم ، وإن كانوا يعتقدون أن ذلك حق لأن خطأهم معلوم على القطع ، بخلاف الخطأ في مظان الاجتهاد فإن قلت : فمهما اعترضت على القدري في قوله : الشر ليس من الله ، اعترض عليك القدري أيضا في قولك : الشر من الله ، وكذلك في قولك : إن الله يرى ، وفي سائر المسائل إذ المبتدع محق عند نفسه ، والمحق مبتدع عند المبتدع ، وكل يدعي أنه محق ، وينكر كونه مبتدعا ، فكيف يتم الاحتساب؟ فاعلم أنا لأجل هذا التعارض نقول ينظر إلى البلدة التي فيها أظهرت تلك البدعة ، فإن كانت البدعة غريبة ، والناس كلهم على السنة ، فلهم الحسبة عليه بغير إذن السلطان وإن انقسم أهل البلد إلى أهل البدعة وأهل السنة وكان في الاعتراض تحريك فتنة بالمقاتلة ، ، فإذا رأى السلطان الرأي الحق ونصره ، وأذن لواحد أن يزجر المبتدعة عن إظهار البدعة كان له ذلك ، وليس لغيره فإن ما يكون بإذن السلطان لا يتقابل ، وما يكون من جهة الآحاد فيتقابل الأمر فيه، وعلى الجملة فليس للآحاد الحسبة في المذاهب إلا بنصب السلطان ولكن ينبغي أن يراعى فيها هذا التفصيل الذي ذكرناه كيلا يتقابل الأمر ، ولا ينجر إلى تحريك الفتنة بل لو أذن السلطان مطلقا في منع كل من يصرح بأن القرآن مخلوق ، أو أن الله لا يرى ، أو أنه مستقر على العرش مماس له ، أو غير ذلك من البدع لتسلط الآحاد على المنع منه ولم يتقابل الأمر فيه ، وإنما يتقابل عند عدم إذن السلطان فقط . فالحسبة في البدعة أهم من الحسبة في كل المنكرات