فإن قلت قد : فهمت اليقين وقوته وضعفه وكثرته وقلته وجلاءه وخفاءه بمعنى نفي الشك أو بمعنى الاستيلاء على القلب فما معنى متعلقات اليقين ومجاريه وفي ماذا ، يطلب اليقين ، فإني ما لم أعرف ما يطلب فيه اليقين لم أقدر على طلبه فاعلم أن جميع ما ورد به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من أوله إلى آخره هو من مجاري اليقين فإن ومتعلقه المعلومات التي وردت بها الشرائع فلا مطمع في إحصائها ولكني أشير إلى بعضها وهي أمهاتها فمن ذلك التوحيد وهو أن يرى الأشياء كلها من مسبب الأسباب ولا يلتفت إلى الوسائط بل يرى الوسائط مسخرة لا حكم لها فالمصدق بهذا موقن فإن انتفى عن قلبه مع الإيمان إمكان الشك فهو موقن بأحد المعنيين فإن غلب على قلبه مع الإيمان غلبة أزالت عنه الغضب على الوسائط والرضا عنهم ، والشكر لهم ونزل الوسائط في قلبه منزلة القلم واليد في حق المنعم بالتوقيع فإنه لا يشكر القلم ولا اليد ولا يغضب عليهما بل يراهما آلتين مسخرتين وواسطتين فقد صار موقنا بالمعنى الثاني وهو الإشراف وهو ثمرة اليقين الأول وروحه وفائدته . اليقين عبارة عن معرفة مخصوصة
ومهما تحقق أن الشمس والنجوم والجمادات ، والنبات والحيوان وكل مخلوق فهي مسخرات بأمره حسب . تسخير القلم في يد الكاتب وأن القدرة الأزلية هي المصدر للكل استولى على قلبه غلبة التوكل ، والرضا ، والتسليم وصار موقنا بريئا من الغضب والحقد والحسد وسوء الخلق فهذا أحد أبواب اليقين .
ومن ذلك الثقة بضمان الله سبحانه بالرزق في قوله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها واليقين بأن ذلك يأتيه وأن ما قدر له سيساق إليه ومهما غلب ذلك على قلبه كان مجملا في الطلب ولم يشتد حرصه وشرهه وتأسفه على ما فاته وأثمر هذا اليقين أيضا جملة من الطاعات والأخلاق الحميدة .
ومن ذلك أن يغلب على قلبه أن فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وهو اليقين بالثواب والعقاب ، حتى يرى نسبة الطاعات إلى الثواب كنسبة الخبز إلى الشبع ، ونسبة المعاصي إلى العقاب ، كنسبة السموم والأفاعي إلى الهلاك فكما يحرص على التحصيل للخبز طلبا للشبع ، فيحفظ قليله وكثيره فكذلك يحرص على الطاعات كلها قليلها وكثيرها وكما يجتنب قليل السموم وكثيرها ، فكذلك يجتنب المعاصي قليلها وكثيرها وصغيرها وكبيرها فاليقين بالمعنى الأول قد يوجد لعموم المؤمنين أما بالمعنى الثاني فيختص به المقربون في الحركات والسكنات الخطرات والمبالغة في التقوى والتحرز عن كل السيئات وكلما كان اليقين أغلب كان الاحتراز أشد والتشمير أبلغ . وثمرة هذا اليقين صدق المراقبة
ومن ذلك اليقين بأن الله تعالى مطلع عليك في كل حال ومشاهد لهواجس ضميرك وخفايا خواطرك وفكرك فهذا متيقن عند كل مؤمن بالمعنى الأول ، وهو عدم الشك .
وأما بالمعنى الثاني وهو المقصود فهو عزيز يختص به الصديقون