وعن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمر، متفق عليه. "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم; فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله"
قد تقدم الكلام على هذا الحديث في محله، وهو دليل على ترجمة الباب، وفيه والنهي أصل في التحريم، فيكون مدحه صلى الله عليه وسلم بالإغراق والمبالغة، نظما ونثرا، من وادي التحريم، وقد أفرط الناس في ذلك حتى في كتب التصلية والتسليم، فوصفوه إطراء مكروها، وجاؤوا بألفاظ لا تستقيم على قاعدة الشرع، نحو "قنديل عرش الله" ، [ ص: 423 ] ونحوه، ومثل ذلك كثير في "دلائل الخيرات" ، و "شفاء الأسقام" ، وغيرهما، فليحترز الشحيح بدينه، الحريص على إيمانه، من استعمال هذه الأجناس الكلامية وجعلها وظيفة ووردا له، وطاعته عند الله. النهي عن الإطراء،
وقد جعل الله له مندوحة عن ذلك بالصيغ التي وردت في الأحاديث الصحيحة، وبلغت إلينا مأثورة مستفيضة، ولا أبرك من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أصدق منه، ولا أكثر مدحا منه له، فتدبر.
وعن المقداد بن الأسود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رواه "إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب" مسلم.
قال في "المرقاة" : مداحين; أي: مبالغين متوجهين إليكم، سواء يكون نثرا، أو نظما.
والمعنى: يؤخذ التراب ويرمى به في وجهه; عملا بظاهر الحديث.
وقيل: أمر بدفع المال إليهم، إذ المال حقير كالتراب بالنسبة إلى العرض في كل باب أعطوهم إياه، واقطعوا به ألسنتهم لئلا يهجوكم.
وقيل: أعطوهم عطاء قليلا، شبهه لقلته بالتراب. وقيل: المراد منه: أن يخيب المادح، ولا يعطيه شيئا لمدحه. والمقصود: زجر المادح من المدح; لأنه يجعل الشخص مغرورا متكبرا، انتهى.
وأقول: الأولى، هو المعنى الأول أو الآخر; لكونه ألصق بمحاورة الحديث، وفيه دلالة على ذم المدح والإفراط في التعظيم والثناء.
ولكن خالف أكثر الناس، فوصفوا الملوك والأمراء والأنبياء والعلماء والمشايخ والأولياء، بقصائد ورسائل، اشتملت على ما يسخط الله ويغضبه، وهي شائعة ذائعة بينهم، يفتخرون بها في مجالسهم، ويرتفعون بها على أقرانهم وأمثالهم [ ص: 424 ] وكل ذلك حرام محرم أشد التحريم، مضر للمادحين والممدوحين، إذا رضوا بذلك.
وما أحق مثل هذه المدونات بالمحو والإمحاق، بل بالغرق والإحراق !!وهل في الكون من يستحق الحمد، أو المدح، أو الثناء الجميل إلا الله سبحانه، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكتاب الله وسنة رسوله ؟!!فالحمد جميعا لله رب العالمين، ثم لرسوله، وقرآنه، وحديثه. لكن على وجه لا يجاوز فيه الحد والثغر والمنارة.
وأما بذل المال لأجل حفظ العرض، فلا بأس به، لكن هذا المال حرام في حق آخذه، سائغ بذله في حق باذله كرها، وكذا ما يأخذه المرء من غيره مستحييا إياه، فكل هذا ونحوه من باب الأكل بالباطل.
وعن قال: أبي بكرة، ; أي: أهلكته; لوقوعه في الكبر والعجب، أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ويلك ! قطعت عنق أخيك، ثلاثا" ; أي: أظن "من كان منكم مادحا لا محالة، فليقل: أحسب" ; أي: لا يثني أحدا ولا يظهره حاكما على الله، وموجبا عليه، كأنه لما مدحه وجزم بمدحه، حكم على الله، وأوجب عليه، وأي إساءة أعظم من هذا في جناب الحق تعالى شأنه ؟! "فلانا، والله حسيبه إن كان يرى أنه كذلك، ولا يزكي على الله أحدا"
والحديث دليل على منع الثناء، وتفويضه إليه تعالى، فإنه عالم الغيب والشهادة، وهو أعلم بمن اتقى، وصار مستحقة للثناء، وأن ضرر هذا المدح يعود قريبا إلى الممدوح ويهلكه، ويقطع عنقه.
وإذا كان هذا حال الثناء مطلقا، فما ظنك بثناء يأتي به الشعراء في كلماتهم ويبلغون به إلى ما فوق العرش، ونعوذ بالله منه، قال قائلهم:
نه كرسء فلك نهداند يشه زيرباي تابوسه بر ركاب قزل ارسلان دهد
[ ص: 425 ]ولله در السعدي في جواب ذلك حيث قال:
جه حاجت كه نه كرسء آسمان نهى زير بائي قزال أرسلان
مكو بائى عزت برا فلاك نه بكو روئي إخلاص برخاك نه
وأمثال هذه الخرافات فيهم كثيرة جدا، لا يأتي عليها الحصر ولا الإحصاء.
فإياك أن تغتر بمديح هؤلاء الأبالسة، الذين لا دين لهم ولا أمانة، إلا من هداه الله فلم يبتل بهذه البلية; كبعض الشعراء، لم يقرب من مدح أهل الدنيا، ولم يبذل قوة فكره وجولان طبعه إلا في مدح الله، ومدح رسوله، أو مدح كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كالسيد المتخلص بالعتيق، والشريف المسمى بالصديق - رحمه الله وحفظه -، ومن حذا حذوهما في القديم والحديث.
وبالجملة: المقصود هنا: النهي عن الإفراط في التعظيم بنظم لآلئ المدائح، والأثنية في النثر، ونثرها في التعظيم.