حقيقة الشرك
وأما : فبيانها أن العبادة هي التذلل الأقصى . حقيقة الشرك
وكون تذلل أقصى من غيره لا يخلو إما أن يكون بالصورة مثل كون هذا قياما ، وذلك سجودا ، أو بالنية بأن نوى بهذا الفعل تعظيم العباد لمولاهم ، وبذلك تعظيم الرعية للملوك ، أو التلامذة للأستاذ ، لا ثالث لهما .
ولما ثبت سجود التحية من الملائكة لآدم -عليه السلام - ، ومن إخوة يوسف ليوسف -عليه السلام - ، وأن السجود على صور التعظيم ، وجب ألا يكون التمييز إلا بالنية .
لكن الأمر إلى الآن غير منقح ؛ إذ المولى مثلا يطلق على معان ، والمراد هاهنا : المعبود لا محالة ، فقد أخذ في حل العبادة ،
فالتنقيح أن التذلل يستدعي ملاحظة ضعف في الذليل ، وقوة في الآخر ، وخسة في الذليل ، وشرف في الآخر ، وانقياد وإخبات في الذليل ، وتسخير ونفاذ حكم للآخر .
والإنسان إذا خلي ونفسه ، أدرك لا محالة أنه يقدر للقوة ، والشرف ، والتسخير ، وما أشبهها مما يعبر به عن الكمال قدرين : قدرا لنفسه ، ولمن يشبهه بنفسه ، وقدرا لمن هو متعال عن وصمة الحدوث ، والإمكان بالكلية ، ولمن انتقل إليه شيء من خصوصيات هذا المتعالي .
فالعلم بالمغيبات يجعله على درجتين : [ ص: 274 ]
1-علم بروية ، وترتيب مقدمات ، أو حدس ، أو منام ، أو تلقي إلهام ، مما يجد نفسه ، لا يباين ذلك بالكلية .
2-وعلم ذاتي هو مقتضى ذات العالم لا يلقاه من غيره ، ولا يتجشم كسبه .
وكذلك يجعل التأثير ، والتدبير ، والتسخير ، أي لفظ قلت على درجتين : بمعنى المباشرة ، واستعمال الجوارح ، والقوى ، والاستعانة بالكيفيات المزاجية ؛ كالحرارة ، والبرودة ، وما أشبه ذلك مما يجد نفسه مستعدة له استعدادا قريبا ، أو بعيدا .
وبمعنى التكوين من غير كيفية جسمانية ، ولا مباشرة شيء ، وهو قوله : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [النحل : 40] .
وكذلك يجعل العظمة ، والشرف ، والقوة على درجتين :
إحداهما : كعظمة الملك بالنسبة إلى رعيته مما يرجع إلى كثرة الأعوان ، وزيادة الطول ، أو عظمة البطش ، والأستاذ بالنسبة إلى ضعيف البطش ، والتلميذ مما يجد نفسه يشارك العظم في أصل الشيء .
وثانيتهما : ما لا يوجد إلا في المتعالي جدا .
ولا تن في تفتيش هذا السر حتى تستيقن أن المعترف بانصرام سلسلة الإمكان إلى واجب لا يحتاج إلى غيره ، يضطر إلى جعل هذه الصفات التي يتمادحون بها على درجتين :
1-درجة لما هنالك .
2-ودرجة لما يشبهه بنفسه .
ولما كانت الألفاظ المستعملة في الدرجتين متقاربة ، فربما يحمل نصوص الشرائع الإلهية على غير محملها .
وكثيرا ما يطلع الإنسان على أثر صادر من بعض أفراد الإنسان ، أو الملائكة ، أو غيرهما ، يستبعده من أبناء جنسه ، فيشتبه عليه الأمر ، فيثبت له شرفا مقدسا ، وتسخيرا إلهيا . [ ص: 275 ]
وليسوا في معرفة الدرجة المتعالية سواء .
فمنهم من يحيط بقوى الأنوار المحيطة الغالبة على المواليد ، ويعرفها من جنسه .
ومنهم من لا يستطيع ذلك.
. وكل إنسان مكلف بما عنده من الاستطاعة
وهذا تأويل ما حكاه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من نجاة مسرف على نفسه أمر أهله بحرقه ، وتذرية رماده ؛ حذرا من أن يبعثه الله ويقدر عليه .
فهذا الرجل استيقن بأن الله متصف بالقدرة التامة .
لكن القدرة إنما هي في الممكنات ، لا في الممتنعات .
وكان يظن أن جمع الرماد المتفرق نصفه في البر ، ونصفه في البحر ممتنع .
فلم يجعل ذلك نقصا ، فأخذ بقدر ما عنده من العلم ، ولم يعد كافرا ، كان التشبيه ، والإشراك بالنجوم ، وبصالحي العباد الذين ظهر منهم خرق العوائد ؛ كالكشف ، واستجابة الدعاء متوارثا فيهم .
وكل نبي يبعث في قومه ؛ فإنه لا بد أن يفهمهم حقيقة الإشراك ، ويميز كلا من الدرجتين ، ويحصر الدرجة المقدسة في الواجب ، وإن تقاربت الألفاظ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لطبيب : . «إنما أنت رفيق ، والطبيب هو الله »
وكما قال: يشير إلى بعض المعاني دون بعض . «السيد هو الله »
ثم لما انقرض الحواريون من أصحابه ، وحملة دينه ، خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات .
فحملوا الألفاظ المستعملة المشتبهة على غير محملها ؛ كما حملوا المحبوبية ، والشفاعة التي أثبتها الله تعالى في قاطبة الشرائع لخواص البشر على [ ص: 276 ] غير محملها ، وكما حملوا صدور خرق العوائد ، والإشراقات على انتقال العلم ، والتسخير الأقصيين إلى هذا الذي يرى منه .
والحق أن ذلك كله يرجع إلى قوى ناسوتية ، أو روحانية ، تعد لنزول التدبير الإلهي على وجه ، وليس من الإيجاد والأمور المختصة بالواجب في شيء .
والمرضى بهذا المرض على أصناف :
منهم : من نسي جلال الله تعالى بالكلية ، فجعل لا يعبد إلا الشركاء ، ولا يرفع حاجته إلا إليهم ، ولا يلتفت إلى الله أصلا ، وإن كان يعلم بالنظر البرهاني أن سلسلة الوجود تنصرم إلى الله .