ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين [الأنبياء : 79] .
[79] ففهمناها أي : الحكومة سليمان وعلمناه القضية .
فيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان ؛ لأن الغنم رعت الزرع بلا راع ليلا ، فتحاكما إلى داود ، فحكم لصاحب الزرع بالغنم ، فقال سليمان : غير هذا أرفق بهما ، وكان سنه إحدى عشرة سنة ، فعزم عليه داود بالأبوة [ ص: 377 ] والنبوة ليحكمن بينهما ، فدفع الغنم إلى صاحب الزرع ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ، وإلى صاحب الغنم الحرث يصلحه ، فإذا عاد كحاله حين هلك ، ترادا ، فقال له : القضاء ما قضيت ، هذا كان في شريعتهم .
وأما في شريعتنا ، فما عند أفسدته البهائم من الزرع والشجر وغيرهما نهارا بلا راع ، فلا ضمان على ربها مالك والشافعي ، وما أفسدته ليلا ، ففيه الضمان عندهم إن فرط ، وإلا ، فلا ؛ لأن في عرف الناس أن أصحاب الزرع يحفظونه بالنهار ، والمواشي تسرح بالنهار ، وترد بالليل إلى المراح . وأحمد
وعند : لا ضمان في ذلك في ليل ولا نهار ، إلا أن يكون معها سائق أو قائد ، إلا أن ترسل عمدا . أبي حنيفة
واختلفوا ، فقال فيما أتلفت من الأنفس والأموال سوى الزروع والثمار : لا ضمان على ربها في ليل ولا نهار ، وقال مالك : يضمن ما أتلفت من نفس ومال إذا كان معها ليلا أو نهارا ، فإن بالت أو راثت بطريق ، فتلف به نفس أو مال ، فلا ضمان عليه ، وقال الشافعي أبو حنيفة : إذا كانت في يد راكب أو سائق أو قائد ، فيضمن ما جنت يدها أو فمها ، أو وطؤها برجلها ، وقيد وأحمد بما [إذا كان قادرا على التصرف فيها ، ولا يضمن عندهما ما نفحت برجلها ، وقيد أحمد] بما إذا لم يكبحها ؛ أي : يجد بها زيادة على المعتاد ، أو يضربها على وجهها ، ولا يضمن عندهما ما جنت بذنبها ، والله أعلم . [ ص: 378 ] أحمد
وكان حكم داود وسليمان -عليهما السلام- بوحي عند بعض ، ومنع الأنبياء من الاجتهاد ؛ لاكتفائهم بالوحي ، فكان حكم سليمان ناسخا لحكم داود باجتهاد عند بعض ؛ ليدركوا فضيلة المجتهدين ، وجوز الخطأ عليهم ؛ لأن المجتهد لا يقدر على إصابة الحق في كل حادثة ، وأما العلماء ، فلهم الاجتهاد في الحوادث إذا لم يجدوا فيها نص كتاب أو سنة ، وإذا أخطأوا ، فلا إثم عليهم .
وتقدم ذكر مذاهب الأئمة في جواز ، وحكم المجتهدين بعده في سورة التوبة عند ذكر قصة حنين ، ومما يوضح أن اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر الدنيا داود وسليمان كانا على الصواب قوله : وكلا يعني : داود وسليمان .
آتينا حكما وعلما الفهم في القضاء والنبوة .
قال الحسن : لولا هذه الآية ، لرأيت الحكام قد هلكوا ، ولكن الله تعالى حمد هذا بصوابه ، وأثنى على هذا باجتهاده .
وسخرنا مع داود الجبال يسبحن يقدسن الله تعالى معه .
والطير عطف على الجبال .
وكنا فاعلين قادرين على المذكور من التسبيح والتفهيم ، وكان داود يفهم تسبيح الحجر والشجر ، وكانت الجبال تجاوبه بالتسبيح ، وكذلك الطير .
* * *