المطلب الثاني: الوصية للحربي
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: حكم الوصية له:
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: تجوز الوصية له، ولو كان في دار الحرب، وكان الموصي مسلما، أو ذميا.
[ ص: 492 ] وهو أحد قولي المالكية ، والأصح عند الشافعية ، والصحيح من المذهب عند الحنابلة .
واستثنى بعض المالكية السلاح، واستثنى الشافعية الخيل والسلاح ونحوهما.
قال الرملي : "أما لو قال: أوصيت لزيد الحربي أو الكافر أو المرتد لم يصح; لأن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق، فكأنه قال: أوصيت لزيد لحرابته أو كفره أو ردته فتفسد الوصية; لأنه جعل الكفر حاملا على الوصية".
القول الثاني: لا تجوز . الوصية للحربي
وهو قول الحنفية ، والمعتمد عند المالكية .
وأجازها بعض الحنفية ، ووفق بين الجواز والمنع: أنه لا يجوز له ابتداء وإن فعل مضى.
الأدلة:
أدلة الرأي الأول:
احتج من أجاز الوصية للحربي:
1 - عموم الأدلة السابقة في الوصية للذمي، فإنها شاملة للذمي والحربي، فتبقى على عمومها.
2 - قوله تعالى: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا
والأسير لا يكون إلا حربيا كما قال بعضهم.
[ ص: 493 ] ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:
الأول: أن الأسير في حال أسره معدود في أموال المسلمين، فإطعامه في حال أسره من باب المحافظة على أموال المسلمين حتى يبت في أمره بوجه من الوجوه المشروعة فيه.
الثاني: الأسير في حال الأسر مأمون من حربه، ولا يستعين على حرب المسلمين بإطعامه.
الثالث: الأسير في أيدي المسلمين وقبضتهم، وليس في دار الحرب.
الرابع: كل ما تضمنته الآية هو إطعامه وسد جوعته، ولا يلزم من جواز ذلك هبة المال إليه.
(184) 3 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم ، عن نافع رضي الله عنهما ابن عمر حلة حرير، فبعث بها عمر إلى أخيه عمر بمكة وهو مشرك" . أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطى
ونوقش الاستدلال من وجوه:
الأول: أن رضي الله عنه فعل ذلك باجتهاد منه بعدما قال صلى الله عليه وسلم: عمر . "إنما بعثت بها إليك لتبيعها، أو تكسوها"
والخلاف في حجية مثل هذا مشهور بين الأصوليين والمحدثين.
الثاني: أنه معارض برواية "فباعها النسائي ". عمر
الثالث: أن الحلة التي أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم هي من حلل لعمر أكيدر دومة التي أهداها للرسول صلى الله عليه وسلم، فأعطى منها حلة ، لعمر ، وعلي وأسامة .
[ ص: 494 ] وإذا كانت حلة من هدية أكيدر، لم يبق في الحديث حجة على جواز الهدية للكافر الحربي ; لما يلي: عمر
أولا: لأن مكة في ذلك الوقت كانت فتحت، ولم تبق دار حرب.
ثانيا: لأنه بعد فتح مكة لم يبق مشرك بها، كما أن عطارد صاحب الحلة المعروضة للبيع لم يفد على النبي صلى الله عليه وسلم إلا في السنة التاسعة، كما قال ابن حجر ، ويؤيد مقالته قول في الحديث: عمر فإن الوفود إنما تقاطرت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح "ابتع هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة، وإذا جاءك الوفد" مكة .
(185) 4 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم هشام ، عن أبيه، رضي الله عنهما، قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك" أسماء بنت أبي بكر . عن
وفي لفظ: . "وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم"
ونوقش الاستدلال بحديث من وجوه: أسماء
الأول: هو في امرأة، كما جاء في حديث والإسلام لا يعتبر المرأة حربية بطبعها; ولذا نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء رضي الله عنهما. ابن عمر
الثاني: أنها وردت عليها إلى المدينة فليست في دار الحرب، وكانت الفترة التي وردت فيها هي فترة صلح الحديبية ، فكانت معاهدة، لا حربية.
[ ص: 495 ] الثالث: أنها وردت على بنتها بهدايا فردتها بمثلها أخذا:
(186) بما رواه من طريق أبو داود ، عن الأعمش ، عن مجاهد رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن عمر . "من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه"
[ ص: 496 ] فلم يكن ما فعلته معها هبة خالصة، بل هبة ثواب، وهي معاوضة خارجة عما نحن بصدده.
الرابع: أنها أمها، ولا يلزم من جواز الهدية لامرأة بهذه الظروف جوازها لحربي في دار الحرب متربص بالمسلمين.
الخامس: أنها قضية عين، وقضايا العين لا تقوم بها حجة في غير ما وردت فيه; لأنه لا عموم فيها.
5 - قياس الحربي على الذمي، أو قياس الوصية للحربي على الهدية له الثابتة بالإجماع.
ونوقش استدلالهم هنا بقياس الحربي على الذمي من وجهين:
الأول: أنه قياس في محل النص، فإن آية لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم نص في النهي عن بر الحربي كما سبق، والقياس في محل النص فاسد.
الثاني: أنه قياس مع وجود الفارق; فإن الذمي في حالة سلم مع المسلمين بالوصية له، كما أنه قياس على أصل مختلف فيه، فإن كما سبق لا يقول بجواز الوصية للذمي إلا على وجه الصلة. ابن القاسم
[ ص: 497 ] 6 – بالاستصحاب، فإنه يجوز إعطاؤه في حال الحياة إجماعا، فيستصحب ذلك الحكم فيما بعد الموت.
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه مردود بوجود الفرق بينهما كما سبق بيانه، بالإضافة إلى أنه قياس على أصل مختلف فيه، فإن المالكية يمنعون الهدية للحربي، فلا تصح دعوى الإجماع على جواز الهبة له.
دليل القول الثاني: (منع الوصية للحربي):
1 - قوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون وجه الدلالة من وجهين:
الأول: قوله تعالى: لم يقاتلوكم فإنه يدل بطريق المفهوم على النهي عن بر من يقاتلنا، وهو عام في كل مقاتل، سواء كان في بلد الحرب أم غيره، كان بره بإعطاء السلاح أو غيره; لقاعدة: عموم الأشخاص يستلزم عموم الأمكنة والأحوال.
الوجه الثاني: قوله تعالى: إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم وهو عام في كل مقاتل، مثل ما قبله، إلا أن هذا يدل بالمنطوق، والأول يدل بالمفهوم، وكلاهما حجة.
2 - وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة
[ ص: 498 ] فالحربي مأمور بقتله والإغلاظ إليه، مأذون في أخذ ماله، في آيات كثيرة، وهذه منها وهي من آخر القرآن نزولا، والأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده أو يتضمنها، فلا يجتمع الأمر بقتله، والإذن في الوصية له; لأنهما ضدان.
3 - قوله تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله
4 - أن الوصية إليه إعانة له، وتقوية له على حرب المسلمين، فإن سلاح المال لا يقل خطره عن سلاح النار، وقد وهو عام يشمل الوصية للحربي. نهى الله عن التعاون على الإثم والعدوان،
5-كما لو أوصى للحربي بالسلاح وبالعبد المسلم; لأن من لا تجوز له الوصية بالعبد المسلم لا تجوز له الوصية بالمال.
6 - ما تقدم من حديث: . "لا يأكل طعامك إلا تقي"
وأثر في امتناعه من إعطاء من شك في إسلامه في دار الإسلام، فكيف بمن تحقق كفره وحرابته في بلد الحرب. ابن عباس
الترجيح:
الراجح - والله أعلم -: أن يقال كما قال الحارثي : "والصحيح من القول: أنه إذا لم يتصف بالقتال والمظاهرة: صحت، وإلا لم تصح، وبهذا تجتمع الأدلة.
[ ص: 499 ]