المسألة الثانية: أن يقف ملك غيره:
) (وقف الفضولي
من شروط صحة الوقف أن يكون من مالك; لما يأتي من الأدلة على اشتراط الرضا لصحة الوقف وعدم صحة وعلى هذا إذا وقف ملك غيره لم يصح وقفه، لكن اختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا أجاز المالك هذا الوقف هل يصح وينفذ أو لا؟ على قولين: وقف المكره،
القول الأول: صحة وقف الفضولي بالإجازة.
وهو مذهب الحنفية، وبه قال بعض المالكية، في القديم، ورواية عند والشافعي الحنابلة [ ص: 352 ] .
القول الثاني: عدم صحة وقف الفضولي مطلقا.
وهو قول المالكية، وبه قال في الجديد، وهو مذهب الشافعي الحنابلة.
الأدلة:
أدلة القول الأول:
1 - قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى .
وجه الدلالة: أن في إعانة لأخيه المسلم; لأنه يكفيه عن هذا التصرف إذا كان مختارا له. وقف الفضولي
ونوقش هذا الاستدلال: بعدم التسليم، بل من الإثم والعدوان; لأنه تصرف في ملك الغير بلا إذن.
وأجيب: بعدم التسليم; إذ لا ضرر على المالك; إذ هو موقوف على إجازته.
(93 ) 2 - ما رواه من طريق البخاري شبيب بن غرقدة، عن عروة البارقي رضي الله عنه [ ص: 353 ] أن النبي صلى الله عليه وسلم « أعطاه دينارا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه».
ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل وكالة مطلقة، وإذا كان كذلك فقد حصل البيع والشراء بإذن. عروة
وأجيب: بأن سياق الحديث يأبى ذلك; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بشراء شاة ولم يوكله ببيعها.
الوجه الثاني: أن اشترى لنفسه ووفى بدينار النبي صلى الله عليه وسلم مستقرضا له، فصار الدينار في ذمته، ثم باع شاته بدينار، فصرفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما لزمه وأهدى إليه الشاة الأخرى. عروة
وأجيب عنه بجوابين:
الأول: أنه لا دليل على ذلك، بل الدليل دل على خلافه; فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرح بفعل ودعا له، ولو كان الشراء عروة، لما استحق ذلك. لعروة
الثاني: أنه لو سلم ذلك، وأنه استقرض دينار النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت جواز تصرف الفضولي; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن باقتراض الدينار أولا، وأقره على ذلك. لعروة
(94 ) 3 - ما رواه من طريق أبو داود أبي حصين، عن شيخ من أهل المدينة، عن رضي الله عنه حكيم بن حزام [ ص: 354 ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بعث معه بدينار يشتري له أضحية فاشتراها بدينار وباعها بدينارين، فرجع فاشترى له أضحية بدينار، وجاء بدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فتصدق به النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا له أن يبارك له في تجارته ».
(95 ) 4 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم حدثني الزهري، سالم بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه... »، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « وقال الثالث : اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل، والبقر، والغنم، والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي ، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون». عبد الله بن عمر أن
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الحديث مساق المدح للمستأجر الذي تصرف في مال الأجير بغير إذنه، فثمره له.
ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أنه في وشرع من قبلنا ليس بشرع لنا. شرع من قبلنا،
وأجيب: بأن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يخالفه شرعنا، كيف وقد ساقه النبي صلى الله عليه وسلم مساق المدح لفاعله، مما يدل على إقراره، فيكون شرعا لنا.
الوجه الثاني: أنه استأجره بشيء في الذمة، وما كان في الذمة لا يتعين [ ص: 355 ] إلا بالقبض، ثم إن المالك تصرف فيه وهو في ملكه، فصح تصرفه، سواء اعتقده لنفسه أو لأجيره.
وأجيب عنه بجوابين:
الأول: عدم التسليم بأنه لم يعين الأجر، بل الظاهر أنه عينه ولم يقبضه إياه، وهذا ظاهر الحديث، وحينئذ يكون قد عمل في مال الغير.
الثاني: أنه ورد ما يدل على أنه قبض الأجر.
(96 ) فقد روى من طريق الإمام أحمد عبد الصمد - يعني: ابن معقل - قال: سمعت وهبا يقول: حدثني النعمان بن بشير الرقيم... « فقال: فقلت: يا عبد الله لم أبخسك شيئا من شرطك وإنما هو مالي أحكم فيه ما شئت، قال: فغضب وذهب وترك أجره، قال: فوضعت حقه في جانب من البيت ما شاء الله، ثم مرت بي بعد ذلك بقر، فاشتريت به فصيلة من البقر فبلغت ما شاء الله ». أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر
الوجه الثالث: أن المستأجر أعطاه أكثر من حقه، وأبرأه الأجير من عين حقه، وكلاهما متبرع بذلك من غير شرط، وهذا جائز.
وأجيب: بأن سياق الحديث يدل على أنه أعطاه حقه بعدما ثمره له لا أنه تبرع له. [ ص: 356 ]
(97 ) 4 - ما رواه من طريق البخاري عوف، عن عن محمد بن سيرين، رضي الله عنه قال: « أبي هريرة وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة ».
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر تصرف في تركه للشيطان بعد أخذه ما أخذه من الطعام، وقد وكل به. أبي هريرة
5 - أن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة.
1 - أنه تصرف صدر من أهله لكون ممن يصح تصرفه في محلة ولا ضرر في انعقاده موقوفا، فينعقد كما لو أذن المالك.
2 - أن صار تصرفه موقوفا على الإجازة، فكذا غيره. الملتقط لو تصدق باللقطة
أدلة القول الثاني: (عدم صحة ) : وقف الفضولي
1 - ما تقدم من الأدلة على اشتراط رضا الواقف.
2 - قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل .
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه مسلم مع عدم الإجازة، أما مع الإجازة فقد تحصل الرضا.
(98 ) 3 - ما رواه من طريق الإمام أحمد أيوب، حدثني حدثني أبي، عن أبيه قال: ذكر عمرو بن شعيب، رضي الله عنهما قال: قال [ ص: 357 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عبد الله بن عمرو [حسن]. [ ص: 358 ] [ ص: 359 ] لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك»
وجه الدلالة: أن تصرف الفضولي تصرف فيما لا يملك، وتصرف الإنسان فيما لا يملك منهي عنه شرعا، والنهي يقتضي عدم مشروعية المنهي عنه.
نوقش الاستدلال بهذا الحديث من وجوه:
الوجه الأول: أن معنى الحديث: لا تبع ما ليس عندك مما لا تملكه لا أصالة ولا يدا، وليس معناه لا تبع ما لا تملكه أصالة وإن كان بيدك وكالة; وإلا لما صح بيع الوكيل، مع أن بيع الوكيل يصح بالإجماع.
ولا فرق بين الوكيل وبين الفضولي في نفس البيع; لأن كل واحد منهما بائع ملك غيره، والفرق إنما هو في الإذن وعدمه، وهو غير مؤثر. [ ص: 360 ]
وأجيب: بأن الإذن للوكيل يجعل المعقود عليه مقدور التسليم، فلا يكون الفضولي مثله; لأنه لا يقدر على التسليم.
ورد على هذا الجواب بأمرين:
الأول: أنا لا نسلم بأن الفضولي لا يقدر على التسليم، بل يقدر عليه، وإنما لا يقدر على تنفيذ العقد وتصحيحه، وليس في الحديث ما يدل على المنع من ذلك.
الثاني: أن القدرة على التسليم ثابتة بعد الإجازة، والقدرة على التسليم تجب بحسب البيع، فإذا كان البيع باتا فيجب أن تكون القدرة باتة، وإذا كان موقوفا فالقدرة موقوفة، والقدرة الموقوفة موجودة فلم يصح الفرق.
الوجه الثاني: أن الحديث محمول على البيع المطلق، وهو البيع البات النافذ، وحينئذ فلا يدخل في محل النزاع.
الوجه الثالث: أن الحديث محمول على بيع الشخص لنفسه لا لغيره; بدليل قصة الحديث، فإن حكيما رضي الله عنه كان يبيع شيئا لا يملكه ثم يشتريه ويسلمه.
(99 ) 4 - ما رواه من طريق الإمام أحمد مطر، عن عن أبيه، عن جده رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « عمرو بن شعيب، [ ص: 361 ] [ ص: 362 ] ليس على رجل طلاق إلا فيما يملك، ولا عتاق إلا فيما يملك، ولا بيع إلا فيما يملك ».
ونوقش الاستدلال بهذا الحديث من وجهين:
الأول: أنه ضعيف.
الثاني: أنه محمول على ما إذا لم يجز المالك.
5 - أن المقصود بالأسباب الشرعية أحكامها لا مجرد السبب، فإذا لم تفد الحكم لا تعتبر وحكمها، وهو التمليك لا يتصور من غير مالك فيلغو.
ونوقش: أنه غير مسلم، بل تصرف الفضولي يفيد ملكا موقوفا; لأنه اللائق بالسبب الموقوف كما يفيد السبب البات الملك البات; لأنه اللائق به.
6 - أن قد خرج من المالك بدون عوض بخلاف البيع. وقف الفضولي
ونوقش: بأنه غير مسلم، بل وقف الفضولي لم يخرج من مالكه إلا بإذنه.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - صحة وقف الفضولي بالإجازة; لقوة دليله، ومناقشة القول الآخر.
* * * [ ص: 363 ]