القسم الواحد والعشرون:
هدية أهل الحرب للسلطان.
يباح للسلطان قبول هذه الهدية; لأنه يحل له استباحة أموالهم، لكن لمن تكون؟ يختلف باختلاف القصد منها. وهو لا يخلو من ثلاثة فروع:
الفرع الأول: أن تكون الهدية لمودة سابقة بين السلطان وبين المهدي، وليست لكونه سلطانا، فالهدية تكون للسلطان.
الفرع الثاني: أن تكون لأجل سلطانه، فالهدية لبيت مال المسلمين; لأن سلطانه بالمسلمين.
الفرع الثالث: أن تكون الهدية لحاجة، فإن كان السلطان يقدر عليها بغير سلطانه فهو أحق بها، وإلا فلبيت مال المسلمين; لأن سلطانه بهم، فكانوا أحق بها.
الأمر الثالث: الهدية للشفيع:
الشفاعة في اللغة: مأخوذة من الشفع، وهو جعل الفرد زوجا.
وفي الاصطلاح: التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرة.
قضاء حاجة المسلم فيها فضل كبير، وأجر عظيم، والأدلة على هذا كثيرة، ومن ذلك:
1 - قول الله عز وجل: وافعلوا الخير لعلكم تفلحون .
(164 ) 2 - ما رواه الإمام من طريق مسلم عن الأعمش، أبي صالح، عن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر [ ص: 351 ] الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
ومن ذلك قال الله عز وجل: الشفاعة الحسنة، في قضاء حوائج المسلمين، من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها .
فالآية حثت على الشفاعة الحسنة وأن من يفعلها يؤجر عليها.
فإذا أهدى صاحب الحاجة لمن شفع له في قضاء حاجته، فلها أحوال:
الحال الأولى: أن تكون من أجل شفاعة في محرم، كإسقاط واجب، أو معونة على ظلم، ونحو ذلك، فتحرم الهدية بالاتفاق لقوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان .
وبذل الهدية وقبولها هنا من باب التعاون على الإثم والعدوان.
الحال الثانية: أن لا يستطيع طالب الشفاعة الوصول إلى حقه إلا ببذل الهدية، فهذا موضع خلاف بين العلماء:
فجمهور العلماء على أنه جائز.
قال شيخ الإسلام: "فأما إذا أهدي له هدية ليكف ظلمه عنه، أو [ ص: 352 ] ليعطيه حقه الواجب، كانت هذه الهدية حراما على الآخذ، وجاز للدافع أن يدفعها إليه".
الحال الثالثة: أن يستطيع الوصول إلى حقه ودفع الظلم عنه دون أن يقدم الهدية، ولكن يبذلها مكافئة للشافع، ولها قسمان:
القسم الأول: أن يكون هناك شرط من الشافع على المشفوع له، فعند جمهور العلماء يحرم بذل الهدية وقبولها.
وفي الأصح عند الحنفية يحرم الأخذ، ويحل الإعطاء.
القسم الثاني: أن لا يكون هناك شرط، فاختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول: يحرم على الشافع قبول هذه الهدية وبذلها.
وبه قال بعض الحنفية، والإمام ورواية عن الإمام مالك، وأخذ به أكثر أحمد، الحنابلة.
القول الثاني: لا يجوز أخذ الهدية إذا كانت في أمر واجب كالشفاعة عند السلطان في إنقاذ مظلوم، وأما إذا كانت في أمر مباح فيجوز.
وبه قال الصنعاني، وشيخ الإسلام ابن تيمية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومثل ذلك إعطاء من أعتق وكتم عتقه، أو أسر خبرا، أو كان ظالما للناس، فإعطاء هؤلاء: جائز للمعطي حرام عليهم [ ص: 353 ] أخذه، أما الهدية للشفاعة: مثل أن يشفع الرجل عند ولي أمر ليرفع عنه ظلمه، أو يوصل إليه حقه، أو يوليه ولاية يستحقها، أو يستخدمه في الجند المقاتلة. وهو مستحق لذلك، أو يعطيه من المال الموقوف على الفقراء أو الفقهاء أو القراء أو النساك أو غيرهم، وهو من أهل الاستحقاق، ونحو هذه الشفاعة التي فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرم، فهذه أيضا لا يجوز فيها قبول الهدية، ويجوز للمهدي أن يبذل ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه، أو دفع الظلم عنه، هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر.
وقال الصنعاني: "ولعل المراد إذا كانت الشفاعة عند السلطان في إنقاذ المظلوم، أو كانت في محظور كالشفاعة عنده في تولية ظالم، فأخذ الهدية محرم.... وإن كانت الشفاعة في أمر مباح فلعله جائز".
القول الثالث: جواز بذل الهدية وقبولها.
وهو قول أكثر الحنفية، وبه قال بعض الشافعية وهو المذهب عندهم، وهو رواية عن الإمام مع الكراهة. أحمد
وقال بعض الشافعية: إن كان يهدي له قبل الشفاعة، فلا يكره له أن يقبلها، وإن كان لا يهدي له فيكره إلا أن يكافئه.
الأدلة:
أدلة القول الأول:
(165 ) 1 - ما رواه قال: حدثنا حسن، ثنا أحمد ثنا ابن لهيعة، عبيد [ ص: 354 ] الله بن أبي جعفر، عن خالد بن أبي عمران، عن عن القاسم، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي أمامة "من شفع لأحد شفاعة فأهدى له هدية فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من الربا".
وتسميته بالربا من باب الاستعارة للتشابه بينهما; لأن الربا هو الزيادة في المال من الغير لا في مقابلة عوض، وهذا مثله.
(166 ) 2 - ما رواه قال: حدثنا أسلم بن سهل محمد بن عبد الله بن سعيد، قال: ثنا بشر بن محمد بن أبان بن مسلم الواسطي، قال: ثنا عن حماد بن سلمة، أبان بن أبي عياش، عن مسلم بن أبي عمران، عن قال: قلت مسروق رضي الله عنه: "أرأيت الرشوة في الحكم هو السحت، قال: لا، ولكن الكفران السحت أن يكون للرجل ثم السلطان منزلة، ويكون للآخر إليه حاجة فيهدي له ليقضي حاجته". لعمر بن الخطاب
[ ص: 355 ] 3 - ما ورد عن رضي الله عنه أنه سئل عن السحت فقال: "الرجل يطلب الحاجة فيهدي إليه فيقبلها"، فقد جعل ذلك من السحت، والسحت حرام. ابن مسعود
ونوقش: أن ذلك من قبيل الورع، والورع ليس سبيله التحريم، بل يشمل ترك المحرمات والمكروهات والمشتبهات.
(197 ) 4 - ما رواه عن عبد الرزاق، عن الثوري، كليب بن وائل قال: سألت قال: قلت: جاءني دهقان عظيم الخراج فتقبلت عنه بخراجه، فأتاني فكسر صكه، وأدى ما عليه، ثم حملني على برذون، وكساني حلة، قال: "أرأيت لو لم تتقبل منه أكان يعطيك هذا؟ قال: قلت: لا، قال: فلا إذا". ابن عمر،
(168 ) 5. قال حدثنا ابن أبي شيبة: عن يزيد بن هارون، هشام، عن الحسن قال: أتى دهقان من دهاقين سواد الكوفة يستعين به في شيء على عبد الله بن جعفر علي، فكلم له فقضى له حاجته، قال: فبعث إليه الدهقان بأربعين ألفا وبشيء معها لا أدري ما هو؟ فلما وضعت بين يدي عليا قال: ما هذا؟ قيل له: بعث بها الدهقان الذي كلمت له في حاجته أمير المؤمنين، قال: "ردوها عليه، فإنا أهل بيت لا نبيع المعروف". عبد الله بن جعفر
[ ص: 356 ] 6 - إنها مكافأة على إحسان غير واجب، فجاز أخذها على الأمور المباحة.
7 - إن الشفاعة من المصالح العامة التي يقوم بها الناس، وبذل الهدية يجعلها كالأجرة، ولا يجوز أخذ الأجرة على المصالح العامة.
قال شيخ الإسلام: "لأن مثل هذا العمل هو من المصالح العامة التي يكون القيام بها فرضا; إما على الأعيان; وإما على الكفاية، ومتى شرع أخذ الجعل على مثل هذا لزم أن يكون الولاية وإعطاء أموال الفيء والصدقات وغيرها لمن يبذل في ذلك، ولزم أن يكون كف الظلم عمن يبذل في ذلك، والذي لا يبذل لا يولى ولا يعطى ولا يكف عنه الظلم، وإن كان أحق وأنفع للمسلمين من هذا".
8 - إن و ما كان ذريعة إلى محرم فهو محرم. أخذ الهدية على الشفاعة ذريعة إلى الرشوة،
أدلة القول الثاني:
مجموع أدلة القولين.
أدلة القول الثالث: (الجواز ) :
1 - ما ورد من الأدلة على مشروعية الهبة.
2 - عموم الأدلة التي وردت في المكافأة على المعروف، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من صنع إليكم معروفا فكافئوه".
[ ص: 357 ] ونوقش هذا الاستدلال: بتخصيص الهدية للشافع; لورود الأدلة على ذلك.
3 - أن ذلك غير معارض لأصول الشرع ومقاصده.
4 - أن هذا من باب الجعالة، والأصل في الجعالة الحل.
ونوقش هذا الاستدلال: بهذين الدليلين بما ذكره شيخ الإسلام؟ قال: "وقد رخص بعض المتأخرين من الفقهاء في ذلك...." الترجيح:
الراجح - والله أعلم - أنه يجوز أخذ الهدية على الشفاعة في الأمور المباحة دون الشفاعة على الأمور الواجبة أو المحرمة; إذ به تجتمع أدلة المسألة.