المطلب الثاني: الصيغة الفعلية
اختلف الفقهاء - رحمهم الله - في حكم على أقوال: عقد الهبة عن طريق المعاطاة
القول الأول: صحة عقد الهبة بالمعاطاة.
وبهذا قال جمهور العلماء.
فهو مذهب الحنفية، والمالكية، وبه قال بعض الشافعية، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة.
وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله: فهو يرى أن عقد الهبة ينعقد بما دل عليه العرف من قول أو فعل متعاقب أو متراخ.
القول الثاني: لا يصح العقد بالمعاطاة مطلقا.
[ ص: 102 ] وبه قال جمهور الشافعية. لكن استثنوا على الصحيح عندهم: الهدية، وصدقة التطوع.
القول الثالث: يصح العقد بالمعاطاة في الأشياء الحقيرة القليلة، ولا يصح في النفيسة الكثيرة.
وهذا قول عند الحنفية، والشافعية، وهو رواية عن الإمام اختارها القاضي أحمد، وابن الجوزي.
واختلفوا في حد القليل والكثير، والمحقر والنفيس:
فذهب بعض الحنفية: إلى النفيس: ما كثر ثمنه كالعبد، والحقير: ما قل ثمنه كالخبز.
ومنهم من حد النفيس بنصاب السرقة فأكثر، والحقير بما دونه.
وهذا الضابط وجه شاذ ضعيف عند الشافعية.
والراجح: أنه يرجع في القليل والكثير، والمحقر والنفيس إلى العرف، فما عد في العرف حقيرا فهو حقير، وما عد نفيسا فهو نفيس.
وهذا هو المشهور عند الشافعية.
[ ص: 103 ] القول الرابع: كل من وسم بالبيع اكتفي منه بالمعاطاة كالعامي والتاجر، وكل من لم يعرف بذلك لا يصح منه إلا باللفظ.
وهذا قول لبعض الشافعية.
قال الشربيني: وخلاف المعاطاة في البيع يجري في الإجارة والرهن والهبة ونحوها".
الأدلة:
أدلة القول الأول: (صحة العقد بالمعاطاة ) :
استدل القائلون بصحة العقد عن طريق المعاطاة بالأدلة الآتية:
1 - قوله تعالى: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ، وقوله: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم .
(37 ) 2 - ما رواه عبد الله من طريق عن حاتم بن إسماعيل، عبد الملك بن حسن الجاري، عن عمارة بن حارثة، عن عمرو بن يثربي قال: مكة والجار ليس بها أنيس". خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا ولا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب نفس منه، فقلت: يا رسول الله أرأيت إن لقيت غنم ابن عمي أجتزر منها شاة؟ فقال: إن لقيتها نعجة تحمل شفرة، وأزنادا نجبت [ ص: 104 ] الجميش، فلا تهجها، قال: يعني نجبت الجميش أرضا بين
[ ص: 105 ] (38 ) 3 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم عن مالك، عن نافع، رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ابن عمر "لا يحلب أحد ماشية أحد إلا بإذنه".
وجه الدلالة من هذه الأدلة: أنها دلت على اشتراط الرضا، والمعاطاة تدل عرفا على الرضا، فيلزم من ذلك صحة العقد بها; لأن اللفظ إنما يراد للدلالة على التراضي، فإذا وجد ما يدل عليه من المساومة والتعاطي قام مقامه، وأجزأ عنه لعدم التعبد فيه.
4 - أن من تتبع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة - رضوان الله عليهم - من أنواع المبايعات والمؤجرات والتبرعات، علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين، ولو استعلموا ذلك في عقودهم لنقل نقلا شائعا، ولو كان ذلك شرطا لوجب نقله، ولم يتصور إهماله والغفلة عن نقله; لأن العقود مما تعم بها البلوى.
فلو اشترط لها صيغة معينة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم بيانا عاما للناس حتى لا يخفى عليهم حكمها، وإنما المنقول خلاف ذلك في آثار كثيرة، منها:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى مسجده، والمسلمون بنوا المساجد على عهده وبعد موته، ولم يؤمر أحد أن يقول: وقفت هذا المسجد، ولا ما يشبه هذا اللفظ.
(39 ) روى من طريق البخاري عبيد الله الخولاني أنه سمع رضي الله عنه: [ ص: 106 ] يقول:... سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: عثمان بكير: حسبت أنه قال: يبتغي به وجه - بنى الله له مثله في الجنة". "من بنى مسجدا - قال
4 - أن أسماء العقود وردت في الكتاب والسنة معلقا بها أحكام شرعية، ولا بد لكل اسم حد يعرف به إما باللغة، كالشمس والقمر والبر والبحر، وإما بالشرع، كالمؤمن والكافر والمنافق، وما لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع: فالمرجع فيه إلى عرف الناس، كالقبض، ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدا، وليس لها حد في لغة العرب أيضا، وبما أن الأمر كذلك فيكون المرجع فيها إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعا فهو بيع، وما سموه هبة فهو هبة.
أدلة القول الثاني: (عدم صحة المعاطاة في عقد الهبة عن طريق المعاطاة ) :
استدل القائلون بعدم صحة العقد بالمعاطاة بالأدلة الآتية:
1 - قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم .
وجه الدلالة: أن الأصل في العقود التراضي.
غير أن حقيقة الرضا لما كانت أمرا خفيا وضميرا قلبيا، اقتضت الحكمة رد الخلق إلى مرد كلي، وضابط جلي، يستدل به عليه، وهو الإيجاب والقبول الدالان على رضا العاقدين.
[ ص: 107 ] ونوقش هذا الدليل: بأنه لا يوجد في الشرع ما يدل على اشتراط لفظ معين أو فعل معين يستدل به على التراضي، وقد علم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون التراضي وطيب النفس بطرق متعددة...بل ثبت بالأدلة أن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يستعملون المعاطاة وسيلة للتعبير عن الرضا بالعقد، وهذا أمر معهود في ذلك العصر، وفي كل عصر ومصر.
2 - أن المعاطاة في معنى ما نهى عنه الرسول الله صلى الله عليه وسلم من بيع المنابذة والملامسة.
(40 ) روى البخاري من طريق ومسلم عن أبي الزناد، عن الأعرج، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة "نهى عن الملامسة والمنابذة، وبيع الحصاة".
(41 ) وروى من طريق مسلم عن أبي الزناد، عن الأعرج، رضي الله عنه قال: أبي هريرة "نهى رسول الله عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر".
والجامع بين هذه البيوع والمعاطاة وقوعها بغير لفظ، وكذا الهبة. ونوقش هذا الدليل: بعدم التسليم بالقياس; لأنه قياس مع الفارق.
فبيع الملامسة هو: وقوع العقد باللمس.
والمنابذة: وقوع العقد بنبذ الثوب ونحوه إلى المشتري.
وكذلك بيع الحصاة هو: أن يضع عليه حصاة.
فتكون هذه الأفعال عندهم موجبة لوقوع عقد البيع، أما المعاطاة فليست [ ص: 108 ] من جنس اللمس والمنابذة والحصاة; لأن العقد معلق فيه هذه البيوع على المخاطرة، ولا تعلق للمس والنبذ ووضع الحصاة بعقد البيع، فليست هذه الأفعال من موجبات العقد ولا من أحكامه، أما المعاطاة فهي تسليم وتسلم وتسليم المبيع والثمن من حقوق البيع وأحكامه.
3 - أن في المعاطاة نقلا للملك من غير لفظ دال عليه، وقد أحل الله البيع، والبيع اسم للإيجاب والقبول، وليس مجرد فعل بتسليم وتسلم; إذ للمسلم أن يرجع ويقول: قد ندمت، وما بعته; إذ لم يصدر مني إلا مجرد تسليم، وذلك ليس ببيع.
ونوقش هذا الدليل: بأنه مخالف لما عليه أهل اللغة، فليس البيع في اللغة اسم للإيجاب والقبول، وإنما هو مبادلة المال بالمال، وحقيقة المبادلة بالمعاطاة هي: الأخذ والإعطاء، أما التلفظ بالإيجاب والقبول فهو مجرد دليل على الرضا بالمبادلة الفعلية. ونصوص الشرع دالة على هذا، فمن ذلك قول الله سبحانه وتعالى: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، والتجارة عبارة عن جعل الشيء للغير ببدل، وهو تفسير التعاطي.
وقال سبحانه وتعالى: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين أطلق سبحانه وتعالى اسم التجارة على تبادل ليس فيه قول البيع.
وقال سبحانه وتعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ ص: 109 ] ، فقد سمى الله سبحانه وتعالى مبادلة الجنة بالقتال في سبيل الله تعالى اشتراء وبيعا; لقوله تعالى في آخر الآية: فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به .
وإن لم يوجد لفظ البيع.
4 - أن العقود أنواع متباينة كالبيع والإجارة والرهن والهبة والصدقة على عوض، والصلح بالمال، ولكل منها ماهية تخصه، والرضا المقترن بالمعاوضة جنس شامل لجميع تلك الصور، فلا بد في معرفة كونه بيعا من هبة، أو هبة من صدقة، أو رهنا من إجارة، ونحو ذلك من بيان كل منها باسم يخصه، وليس إلا القول المترجم عما في النفس، وإلا كان رجوعا بالبيان إلى غير ما جعل الله أمره إليه.
ويناقش هذا الدليل: بأن التمييز بين العقود يكون باللفظ، وبالقرائن والظروف المحيطة بها، وبالعرف الغالب.
فإذا ركب شخص سيارة أجرة، ودفع لصاحبها الثمن بعد وصوله مقصده ولم يحدث بينهما كلام، فالعقد إجارة، وإذا أعطى شخص صديقا له ليلة عرسه قلما أو ساعة ونحوهما فالعقد هبة، وإذا دفع رجل إلى بائع الخبز ريالا وأعطاه به خبزا فالعقد بيع، وهكذا.
فالعرف والقرائن والظروف تعين على فهم المقصود بوضوح دون لبس أو غموض.
ه - واستدلوا على استثناء الهدايا: أن ولا لفظ هناك. الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذها،
[ ص: 110 ] وعلى هذا جرى عرف الناس في جميع الأعصار، ولهذا كانوا يبعثون بها على أيدي الصبيان الذين لا عبارة لهم.
(42 ) روى من طريق البخاري عن حماد بن زيد، هشام، عن أبيه، عن رضي الله عنها قالت: عائشة "كان الناس يتحرون بهداياهم يومي".
أنه لو لم تكن مباحة ما تصرفوا فيه تصرف الملاك، ومعلوم أن ما قبله النبي صلى الله عليه وسلم من الهدايا كان يتصرف فيه، ويملكه غيره.
أدلة القول الثالث: (صحة العقد بالمعاطاة في الأشياء الحقيرة القليلة، وعدم صحته في النفيسة الكثيرة:
استدل لهذا الرأي بما يلي:
1 - أنه يستقبح في العادة التلفظ بالإيجاب والقبول في الأمور الحقيرة القليلة، وطالب الإيجاب والقبول فيها يعد متكلفا ثقيلا، وينسب إلى أنه يقيم الوزن لأمر حقير، أما المتلفظ بالإيجاب والقبول في الأمور النفيسة فلا يعد متكلفا، ولا يستقبح فعله.
فالعرف إذا جار بالمعاطاة في المحقرات دون غيرها.
ويناقش هذا الدليل: بأن يقال: لو جرى العرف بالمعاطاة في الأمور النفيسة فهل تأخذون به؟ إن قالوا: لا، فهذا تحكم; إذ كيف تستدلون بالعرف في الحقير، وتتركونه في النفيس، وإن قالوا: نعم، بطل التفريق بين الحقير والنفيس.
2 - أن الحاجة ماسة لتصحيح العقد بالمعاطاة في الأمور الحقيرة; لذلك كانت المعاطاة في المحقرات معتادة عليها في زمن الصحابة، ولو كانوا [ ص: 111 ] يتكلفون الإيجاب والقبول من البقال والخباز والقصاب لثقل عليهم فعله، ولنقل ذلك نقلا منتشرا، ولكان يشتهر وقت الإعراض بالكلية عن تلك العادة، فإن الأمصار في مثل هذا تتفاوت.
ويناقش هذا الدليل من وجهين:
الوجه أحدهما: أن كون الحاجة ماسة للمعاطاة في الأمور الحقيرة، لا يعني عدم صحتها في الأمور النفيسة.
الوجه الثاني: أن ربط التعليل بالحاجة يعني صحة المعاطاة عند وجود الحاجة إليها، والحاجة قد ترد في غير الحقير.
دليل القول الرابع: (من عرف منه البيع اكتفي بالمعاطاة ) :
يمكن أن يستدل لهم فيقال: إن المتعاقدين إذا كانا ممن مارسا العقود واعتاداها عرف منهما الرضا بالمعاطاة، وكان عرفا لهما والعادة محكمة.
ولكن هذا التفريق غير منضبط، فقد يعرف الإنسان بالبيع في سلع خاصة، ولا يعرف في غيرها، وقد يكون مكثرا من عقود البيع والإجارة دون الرهن والمساقاة والصلح بالمال والهبة.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم بالصواب - رجحان القول الأول - صحة العقد عن طريق المعاطاة - ; لقوة أدلة هذا القول، وضعف أدلة الأقوال الأخرى; حيث لم تسلم من المناقشة والنقد.
ولأن الألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه، سواء كان [ ص: 112 ] بإشارة، أو كتابة، أو إيماء، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة مطردة لا يخل بها.
ولأن القائلين بعدم صحة العقد عن طريق المعاطاة كما هو المشهور عن الشافعية لهم استثناءات، فاستثنوا الهدية، وصدقة التطوع مما يدل على عدم انضباط قولهم.
[ ص: 113 ]