وفيه مطالب:
المطلب الأول
عزل الناظر نفسه
قد يعزل ناظر الوقف نفسه عن النظارة; لعدم تفرغه، أو لعدم قدرته لكبر أو مرض، أو لغير ذلك، فهل يملك ذلك بنفسه ، أو لا بد من إبلاغ القاضي به؟ .
اختلف الفقهاء في هذا على ثلاثة أقوال:
القول الأول : أن . الناظر لا ينعزل بعزله نفسه حتى يبلغ القاضي بذلك
وبه قال الحنفية.
القول الثاني : أن للناظر الحق في عزل نفسه عن نظارة الوقف، وينعزل بذلك.
وبه قال المالكية، وكثير من الشافعية، وهو ظاهر قول الحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. [ ص: 416 ]
جاء في الاختيارات: "ومن شرط النظر لرجل ثم لغيره إن مات فعزل نفسه ، أو فسق، فكموته ".
القول الثالث: أن ناظر الوقف لا ينعزل بعزله نفسه إذا كان نظره بشرط الواقف.
وقالوا: إنه رغم أنه لا ينعزل بعزله نفسه لكنه لا يجب عليه النظر، ولا يجبر عليه .
وهذا هو مقتضى كلام ابن رشد من المالكية ، حيث قال: "عزل الوصي نفسه عن النظر لليتيم الذي التزم النظر له، فليس ذلك له إلا من عذر".
وبه قال بعض الشافعية .
الأدلة :
أدلة القول الأول: (لا ينعزل حتى يبلغ القاضي) :
1- قوله تعالى : ما على المحسنين من سبيل .
وناظر الوقف محسن، فلا سبيل عليه إن أراد عزل نفسه ; إذ إلزامه بالنظر مع عدم رغبته ضرر عليه.
2- أن كل من ملك شيئا له أن يخرجه عن ملكه عينا كان، أو منفعة، أو دينا، والنظر حق من حقوق الناظر، فيتمكن من إسقاطه.
3- أن فيه ضررا على الوقف; إذ إلزام الناظر بالنظر مع عدم رغبته قد يدفعه ذلك إلى التقصير في النظر، وعدم القيام بالواجب.
4- أنه لما كان احتمال الضرر واردا على الوقف وجب أن يطلع القاضي [ ص: 417 ] على الاستقالة ليتلافى الضرر; لعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "لا ضرر ولا ضرار".
أدلة القول الثاني: (له الحق في عزل نفسه) :
استدلوا على ما ذهبوا إليه :
1- بالقياس ، فقاسوا عزل ناظر الوقف نفسه على عزل الوصي نفسه ، فإذا جاز للوصي أن يعزل نفسه عن الوصايا ، فكذلك ناظر الوقف .
2- أن كل من ملك شيئا له أن يخرجه عن ملكه عينا كان، أو منفعة، أو دينا .
ونوقش هذا الاستدلال : بأنه لا يعارض القول الأول، بل هو مما يؤيده ; وذلك أنهم قاسوا عزل ناظر الوقف نفسه على عزل الوصي نفسه ، والوصي لا ينفذ عزل نفسه إذا كان في ذلك ضرر بين على الموصى عليه ، فكذلك الوقف، ولذلك استثناه النووي من صحة عزل الوصي نفسه حالة غلبة ظنه تلف المال باستيلاء ظالم.
دليل القول الثالث: (لا يملك عزل نفسه إذا كان نظره بشرط الواقف) :
أن استحقاق الناظر النظر بالشرط كاستحقاق الموقوف عليه الغلة، والموقوف عليه لو أسقط حقه من الغلة لم يسقط، فكذلك إسقاط النظر.
ونوقش هذا الاستدلال : بأنه قياس مع الفارق ; إذ إن استحقاق الناظر النظر بالشرط ليس كاستحقاق الموقوف عليه الغلة، ولذلك لو ظهر من الناظر بالشرط أنه استعمل هذا الحق للإضرار بالوقف شرع عزله، في حين لو [ ص: 418 ] استعمل الموقوف عليه حقه بالإضرار على الوقف لم يمنع حقه، ويمنع من الإضرار بالوقف.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - هو القول الأول; لأن ذلك يمنع الضرر عن الناظر وعن الوقف، حيث إنه إذا أبلغ القاضي بذلك قطع الضرر الذي قد يلحق بالوقف ; لأن القاضي هو الناظر العام للأوقاف .