وأما قوله: «أشهد» فليست صيغة إذا، فليس كذلك بل هو للتوبيخ; لما يدل عليه بقية ألفاظ الحديث، حيث أمر برد تلك الصدقة، وأخبر أنها جور فالمراد به: التوبيخ والوعيد، كقوله تعالى: فإن شهدوا فلا تشهد معهم ليس على إباحة الشهادة على الجور والباطل، لكن كما قال تعالى: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وقوله: اعملوا ما شئتم ثم على فرض أن قوله: صيغة أمر، فالمراد به نفي الجواز كقوله صلى الله عليه وسلم: «أشهد على هذا غيري»
(215) فيما رواه البخاري من طريق ومسلم هشام، عن أبيه، عن رضي الله عنه: عائشة . [ ص: 226 ] وبدليل قوله: «خذيها فأعتقيها واشترطي لهما الولاء، فإن الولاء لمن أعتق» وهذا نهي صحيح، وكما تدل عليه بقية الروايات. «أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟» قال: بلى، قال: «فلا إذا»،
وكيف يجوز أن يأمر بتأكيده مع أمره برده، وتسميته جورا؟ وحمل الحديث على هذا حمل لحديث النبي صلى الله عليه وسلم على التناقض والتضاد، ولو أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإشهاد غيره لامتثل بشير أمره ولم يرده، وإنما هذا تهديد له على هذا، فيفيد ما أفاد النهي عن إتمامه» .
الوجه السابع:
(216) ما رواه أخبرنا النسائي: عن عبيد الله بن سعيد، يحيى، عن فطر قال: حدثني مسلم بن صبيح قال: سمعت وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: النعمان، ، فدل على أن المراد بالأمر الاستحباب، وبالنهي التنزيه. «ألا سويت بينهم»
وأجيب: بأن هذا جيد، لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة على هذه اللفظة، ولا سيما أن تلك الرواية بعينها، وردت بصيغة الأمر أيضا حيث قال: «سو بينهم» .
الوجه الثامن: ما جاء في رواية قال مسلم، ابن عون: فحدثت به - فقال: «إنما تحدثنا أنه قال: محمد - ابن سيرين . [ ص: 227 ] وأجيب عن ذلك بثلاثة أمور: قاربوا بين أولادكم»
الأول: أنه منقطع.
الثاني: أنه لو صح، فإن المقاربة: الاجتهاد في التعديل، كما قال تعالى: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة فصح أن المجتهد في التعديل بين أولاده إن لم يصادف حقيقة التعديل كان مقاربة إذا لم يقدر على أكثر من ذلك.
الثالث: أن المخالفين لا يوجبون المقاربة كما لا يوجبون التسوية.
الوجه التاسع: التشبيه الواقع في التسوية بينهم، بالتسوية منهم في بر الوالدين قرينة تدل على أن الأمر للندب.
وأجيب: بأن هذا خلاف إطلاق الجور على عدم التسوية، وخلاف المفهوم من قوله: ، وقد قال في آخر الرواية التي وقع فيها التشبيه قال: «فلا إذا» . «لا أشهد إلا على حق»
الوجه العاشر: أن معنى «لا أشهد على جور» أي: لا أشهد على ميل الأب لبعض الأولاد دون بعض.
[ ص: 228 ] وأجيب: بأن هذا فيه بعد، ويرده قوله في الرواية الثانية: . «لا أشهد إلا على حق»
الوجه الحادي عشر: أنه جاء في رواية أن جابر بشير بن سعد رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: . يا رسول الله إن بنت فلان سألتني أن أنحل ابني غلاما، وقالت: أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أله إخوة؟ قال: نعم، قال: أو كلهم أعطيته؟ قال: لا، قال فإن هذا لا يصلح، فإني لا أشهد إلا على حق»
ففي حديث أن جابر بشيرا ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهب، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالأولى، وحديث جابر أولى; لأنه كان كبيرا وكان النعمان صغيرا، والكبير أحفظ وأضبط.
وأجيب بما يلي:
أولا: أنه لا يسلم أن الحديث يدل على ما ذكروه، بل يدل على أنه لم يأت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أعطى ابنه; يدل لذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: مما يدل على أن الأمر قد وقع، ولو كان لم يعطه لقال: «أفكلهم ستعطيه» ; لأن الأمر ما زال أنفا. «أفكلهم أعطيته؟»
ثانيا: وأما كون كان صغيرا النعمان أسن منه، فيرده أن وجابر هو صاحب القصة، وصاحب القصة أعلم بما روى. النعمان
الوجه الثاني عشر: عمل الصحابة: ومنهم أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم من بعد النبي صلى الله عليه وسلم على عدم التسوية قرينة ظاهرة تدل على أن الأمر للندب. [ ص: 229 ] ونوقش: بعدم التسليم بأن ترك العدل من عملهم، وقد بينا حين المناقشة لكل أثر عدم صحة ذلك. وابن عمر
ما ورد عن الصحابة:
(217) 2 - ما رواه من طريق عبد الرزاق أن ابن سيرين رضي الله عنه قسم ماله بين بنيه في حياته فولد له ولد بعد ما مات، فلقي سعد بن عبادة عمر فقال: «ما نمت الليلة من أجل ابن سعد هذا المولود لم يترك له شيئا؟ فقال أبا بكر، وأنا والله ما نمت الليلة - أو كما قال - من أجله، فانطلق بنا إلى قيس بن سعد نكلمه في أخيه، فأتياه فكلماه، فقال أبو بكر: قيس: أما شيء أمضاه سعد فلا أرده أبدا، ولكن أشهدكما أن نصيبي له» .
قال «قد زاد ابن حزم: قيس على حقه، وإقرار لتلك القسمة دليل على صحة اعتدالها» . أبي بكر
ونوقش من وجوه:
الوجه الأول: منقطع; لم يدرك فابن سيرين ولا سعد بن عبادة، ولا أبا بكر ولم يثبت سماعه من عمر، قيس، وإن كان قد أدرك زمانه.
الوجه الثاني: أنه لو صح فأين منه وغاية ما فيه أن وجوب اشتراك المولود بعد الهبة، أبا بكر كلما وعمر قيسا في أخيه، وليس ذلك إلا مجرد شفاعة له.
الوجه الثالث: قوله: «ولكن أشهد كما أن نصيبي له» فهبة مستأنفة من [ ص: 230 ] قيس تبرعا لا دليل على وجوبه عليه، وليس هذا من الاشتراك في ما تركه أبوه كما لا يخفى.
3 - ما ورد أن قال أبا بكر الصديق أم المؤمنين: «يا بنية، إني نحلتك نخلا من خيبر، وإني أخاف أن أكون آثرتك على ولدي، وإنك لم تكوني احتزتيه فرديه على ولدي، فقالت: يا أبتاه لو كانت لي خيبر بجدادها ذهبا لرددتها. لعائشة
ونوقش: بأن هذا احتجاج ساقط; لأن في الأثر قوله: «وإنك لم تكوني احتزتيه» وهو يدل أنها لو حازته لكان ما فعله نافذا، وإنما أبطله بنص قوله: إنها لم تحزه. أبو بكر
(218) 4 - ما رواه من طريق ابن حزم محمد بن أحمد بن الجهم، أنا أنا إبراهيم الحربي، مؤمل بن هشام، نا - إسماعيل بن إبراهيم ابن علية - ، عن عن أبيه حكيم، عن أبيه، بهز بن حكيم، معاوية بن حيدة: «أن أباه حيدة كان له بنون لعلات أصاغر ولده وكان له مال كثير فجعله لبني علة واحدة، فخرج ابنه معاوية حتى قدم على فأخبره بذلك، فخير عثمان بن عفان الشيخ بين أن يرد إليه ماله، وبين أن يوزعه بينهم؟ فارتد ماله، فلما مات تركه الأكابر لإخوتهم» . [ ص: 231 ] ونوقش: بأنه إنما يتم الاحتجاج بأثر عثمان لو ثبت أن الذين جعل لهم حيدة ماله من بنيه كانوا صغارا غير محتملين، أو كبارا قد سلم إليهم ما وهبه لهم، ولا يدل على ذلك قوله - «فارتد ماله» لكونه محتملا لرد الهبة دون العين، ومن ادعى غير ذلك فعليه البيان - ، ويحتمل أن هذه الهبة كانت منه في مرض قد خاف منه عثمان على نفسه; لأنه كان من المعمرين، فأمره برد الهبة لكونها كالوصية للوارث، فلما برأ من مرضه ذلك تمت هبته الأولى، ولذلك تركه الأكابر لإخوتهم بعد موته، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال. عثمان،
5 - أن العقوق فيكون محرما، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله محرم، وتفضيل الوالد بعض أولاده يورث الوحشة والعقوق لبشير رضي الله عنه: . «أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟» قال: بلى، قال: «فلا إذا»
6 - ولأن تفضيل بعضهم يورث العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، فمنع منه كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها.
ونوقش من أمرين:
الأمر الأول: بأن هذا إذا قصد الإضرار لهم، وإلا فلا، وأيضا فأوجبوا التسوية بين سائر الأقارب من الإخوة والأخوات وأولاد البنين والبنات، ولم يقل أحد بذلك مع أن التفضيل يوقع الوحشة والعداوة كما في الأولاد.
[ ص: 232 ] الأمر الثاني: لو كانت العلة هذه فقولوا بجواز التفضيل بينهم سرا حتى لا يطلع عليه غير الموهوب له، وأما تزويج المرأة على عمتها أو خالتها فإن المنافسة بين الضرائر لابد منها عادة، وأمر النكاح مبني على الإشهار والإعلام.
وأجيب:
أما الأمر الأول: فلا يسلم بحصول الوحشة بين سائر الأقارب ولو حصل فليس في منزلة الوحشة بين الأولاد.
أما الأمر الثاني: فليس كل العلة حصول القطيعة بين الأولاد، بل من العلة ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم من تحقيق العدل بين الأولاد الذي تكون ثمرته برهم جميعا لوالدهم.