[ ص: 141 ] ] وأما الثاني فله شروط : أحدها : أن لا يكون خارجا مخرج الغالب مثل قوله تعالى : { شروط مفهوم المخالفة العائدة للمذكور وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم } . فإن الغالب من حال الربائب كونهن في حجور أزواج أمهاتهن ، فذكر هذا الوصف لكونه أغلب لا ليدل على إباحة نكاح غيرها . وكذلك تخصيص الخلع بحال الشقاق لا مفهوم له ، إذ لا يقع غالبا في حال المصافاة والموافقة خلافا ، وإذا لاح للتخصيص فائدة غير نفي الحكم فيما عدا المنطوق تطرق الاحتمال إلى المنطوق ، فصار مجملا كاللفظ المجمل . لابن المنذر
قال : تعارض الفوائد في المفهوم ، كتعارض الاحتمالات في المنطوق يكسبه نعت الإجمال ، فكذلك تعارض الاحتمالات في المنطوق يكسبه نعت الإجمال ، ولا يمكن أن يقال : إنه قصد بهذا التخصيص المغايرة دون اعتبار الفائدة الأخرى . قال الشافعي : ولا حاجة إلى دليل في ترك هذا المفهوم . وقال الشافعي الغزالي في " المنخول " : المختار خلافه ، إذ الشقاق يناسب الخلع ، فإنه يدل على بعد الخلاف وتعذر استمرار النكاح ، فلا ترفع الفحوى المعلومة منه بمجرد العرف ، فلا بد من دليل ، وإن لم يبلغ في القوة مبلغ ما يشترط في ترك مفهوم لا يقصد بالعرف ، فإنه قرينة موهمة . ا هـ .
والصواب الأول ، وهو المنصوص . قال للشافعي الشيخ تقي الدين في [ ص: 142 ] شرح العنوان " : والسبب فيه أن القول بالمفهوم منشؤه طلب الفائدة في التخصيص ، وكونه لا فائدة إلا المخالفة في الحكم ، أو تكون تلك الفائدة أرجح الفوائد المحتملة ، فإذا وجد سبب يحتمل أن يكون سبب التخصيص بالذكر غير المخالفة في الحكم وكان ذلك الاحتمال ظاهرا ، ضعف الاستدلال بتخصيص الحكم بالذكر على المخالفة ، لوجود المزاحم الراجح بالعادة ، فبقي على الأصل . قال : وهذا أحسن ، إلا أنه يشكل على مذهب في قوله : ( في سائمة الغنم الزكاة ) ، فإنه قال فيه بالمفهوم ، وأسقط الزكاة عن المعلوفة ، مع أن الغالب والعادة السوم ، فمقتضى هذه القاعدة أن لا يكون لهذا التخصيص مفهوم . الشافعي
قلت : قد ذكر في كتابه هذا السؤال ، وأجاب عنه بما حاصله : أن اشتراط السوم لم يقل به القفال الشاشي من جهة المفهوم ، بل من جهة أن قاعدة الشرع العفو عن الزكاة فيما أعد للقنية ، ولم يتصرف فيه للتنمية ، وإنما أوجب في الأموال النامية . هذا أصل ما تجب فيه الزكاة ، فعلم بذلك أن السوم شرط . لكن الشافعي القفال قصد بذلك نفي القول بالمفهوم مطلقا ، وقد سبق رده . على أن كلام في " الأم " يخالف ذلك . فإنه قال في كتاب الزكاة : وإذا قيل : في سائمة الغنم كذا ، فيشبه - والله أعلم - أن لا يكون في الغنم غير السائمة شيء ، لأنه كلما قيل في شيء بصفة ، والشيء يجمع صفتين ، يؤخذ حقه كذا ، ففيه دليل على أنه لا يؤخذ من غير تلك الصفة من صفتيه . الشافعي
قال : فلهذا قلنا : لا نأخذ من الغنم غير السائمة صدقة الغنم ، وإذا كان هذا في الغنم ، فهكذا في الإبل والبقر ، لأنها الماشية التي تجب فيها الصدقة دون ما سواها . ا هـ . فلم يجعل الشافعي الغلبة إلا لذكر الغنم حتى ألحق بها الإبل والبقر ، ولم يجعل السوم غالبا . [ ص: 143 ] وقال الشافعي ابن القشيري : قال : الغرض من القول بالمفهوم أن لا يلغي القيد الذي قيد به الشارع كلامه ، فإذا ظهر للقيد فائدة ما مثل إن خرج عن المعتاد الغالب في العرف كفى ذلك . وذكر في " الرسالة " كلاما بالغا في هذا الباب . وقال : إذا تردد التخصيص بين تقدير نفي ما عدا المخصص ، وبين قصد إخراج الكلام على مجرى العرف ، فيصير تردد التخصيص بين هاتين الحالتين ، كتردد اللفظ بين جهتين في الاحتمال ، فيلحق بالمحتملات ، كقوله تعالى : { الشافعي فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } . فاستشهاد النساء مع التمكن من إشهاد الرجال خارج على العرف لما في ذلك من الشهرة ، وهتك الستر ، وعسر الأمر عند إقامة الشهادة ، فجرى التقييد إجراء للكلام على الغالب ، وكقوله : { إن خفتم } في قصر الصلاة . وخالفه إمام الحرمين ، ورأى القول بالمفهوم في ذلك كله ، وأن دليل الخطاب لم يثبت بمجرد التخصيص بالذكر ، إذ لو كان كذلك للزم مثله باللقب ، ولكن إنما دل على ذلك لما في الكلام من الإشعار على مقتضى حقائقه من كونه شرطا ، فلا يصح إسقاط مقتضى اللفظ باحتمال يؤول إلى العرف . نعم ، يظهر مسلك التأويل ، ويخف الأمر على المؤول ، في قرينة الدليل العاضد للتأويل . وقد وافقه الشيخ عز الدين بن عبد السلام ، وزاد فقال : ينبغي العكس ، أي لا يكون له مفهوم إلا إذا خرج مخرج الغالب ، وذلك لأن الوصف الغالب على الحقيقة تدل العادة على ثبوته لتلك الحقيقة ، فالمتكلم [ ص: 144 ] يكتفي بدلالة العادة على ثبوته لها عن ذكر اسمه ، فإذا أتى بها مع أن العادة كافية فيها دل على أنه إنما أتى بها لتدل على سلب الحكم عما يفهم السامع أن هذه الصفة ثابتة لهذه الحقيقة .
وقد أجاب القرافي عن هذا بأن الوصف إذا كان غالبا كان لازما لتلك الحقيقة بسبب الشهرة والغلبة ، فذكره إياه مع الحقيقة عند الحكم عليها لغلبة حضوره في الذهن لا لتخصيص الحكم به . وأما إذا لم يكن غالبا فالظاهر أنه لا يذكر مع الحقيقة إلا لتقييد الحكم به ، لعدم مقارنته للحقيقة في الذهن حينئذ ، فاستحضاره معه واستجلابه لذكره عند الحقيقة إنما يكون لفائدة ، والفرض عدم ظهور فائدة أخرى ، فيتعين التخصيص . ونازع بعضهم في هذا الشرط أيضا ، واعترض بالاستفسار .
فقال : ما تريدون بالغالب ؟ أعادة الفعل أم عادة التخاطب ؟ فإن أريد عادة الفعل فلا نسلم إلا إذا صحبها عادة التخاطب ، ودعوى أن عادة الفعل مستلزمة عادة التخاطب ضعيفة بمنع تسليم اللزوم . ولأنه إثبات اللغة لغلبتها ، وهو واه جدا . وإن أريد عادة التخاطب فإثباتها في موضع الدعوى عسير .
الثاني : أن لا يكون هناك عهد ، وإلا فلا مفهوم له ، ويصير بمنزلة اللقب من إيقاع التعريف عليه ، إيقاع العلم على مسماه . وهذا الشرط يؤخذ من تعليلهم إثبات مفهوم الصفة أنه لو لم يقصد نفي الحكم عما عداه لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة . وقولهم في مفهوم الاسم إنه إنما ذكر لأن الغرض منه الإخبار عن المسمى فلا يكون حجة .
الثالث : أن لا يكون المذكور قصد به زيادة الامتنان على المسكوت ، كقوله تعالى : { لتأكلوا منه لحما طريا } فلا يدل على منع القديد . [ ص: 145 ]
الرابع : أن لا يكون المنطوق خرج لسؤال عن حكم أحد الصنفين ، ولا حادثة خاصة بالمذكور . ولك أن تقول : كيف جعلوا هنا السبب قرينة صارفة عن إعمال المفهوم ، ولم يجعلوه صارفا عن إعمال العام ، بل قدموا مقتضى اللفظ على السبب وبتقدير أن يكون كما قالوه ، فهلا جرى فيه خلاف : العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب ؟ لا سيما إذا قلنا : إن المفهوم عام . ثم رأيت صاحب " المسودة " حكى عن من أصحابهم فيه احتمالين ، ولعل الفرق أن دلالة المفهوم ضعيفة تسقط بأدنى قرينة ، بخلاف اللفظ العام . ومن أمثلته قوله تعالى : { القاضي أبي يعلى لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } فلا مفهوم للأضعاف إلا عن النهي عما كانوا يتعاطونه بسبب الآجال ، كان الواحد منهم إذا حل دينه يقول له : إما أن تعطي وإما أن تربي ، فيضاعف بذلك أصل دينه مرارا كثيرة ، فنزلت الآية على ذلك .
الخامس : أن لا يكون المذكور قصد به التفخيم وتأكيد الحال ، كقوله : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد ) فإن التقييد بالإيمان لا مفهوم له ، وإنما ذكر لتفخيم الأمر لا المخالفة ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : { عرفة } . ويحتمل أن يكون منه : ( إنما الربا في النسيئة ) إذ كان أصل الربا عندهم ومعظمه إنما هو النسيئة . الحج
السادس : أن يذكر مستقلا ، فلو ذكر على جهة التبعية لشيء آخر فلا مفهوم له ، كقوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في [ ص: 146 ] المساجد } . فإن قوله : " في المساجد " لا مفهوم له بالنسبة لمنع المباشرة ، فإن المعتكف يحرم عليه المباشرة مطلقا .
السابع : أن لا يظهر من السياق قصد التعميم ، فإن ظهر فلا مفهوم له كقوله تعالى : { والله على كل شيء قدير } لأنا نعلم أن الله قادر على المعدوم الممكن ، وليس بشيء ، فإن المقصود بقوله : " كل شيء " التعميم في الأشياء الممكنة لا قصر الحكم .
الثامن : أن لا يعود على أصله الذي هو المنطوق بالإبطال ، فلا يحتج على صحة الذي عند البائع بمفهوم قوله : { بيع الغائب } إذ لو صح ، لصح بيع ما ليس عنده الذي نطق الحديث بمنعه ، لأن أحدا لم يفرق بينهما . لا تبع ما ليس عندك
وشرط الماوردي ، والروياني أن يكون المنطوق معناه خاصا كقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر } إلى قوله : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } فتقييد التيمم بالمرض والسفر شرط في إباحته ، فإن كان معناه عاما لم يكن له مفهوم ، وسقط حكم التقييد ، كتقييد الفطر بالخوف ، والكفارة بقتل العمد .
وقالا : عمم داود وأهل الظاهر الحكم في المقيد اعتبارا باللفظ ، لأن الاعتماد على النصوص دون المعاني عندهم ، وهذا غلط ، لأن الله تعالى قال { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } ولا يستباح قتلهم مع أمن إملاق . وقال : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن [ ص: 147 ] تحصنا } ولا يجوز الإكراه وإن لم يردن التحصن ، فلما سقط حكم التقييد في هذا ، ولم يصر نسخا ، جاز أن يسقط غيره . فإن قيل : إذا سقط التقييد كان مقيدا ؟ قلنا : يحتمل ذكر التقييد مع سقوط حكمه أمورا : منها : أن يكون حكم المسكوت عنه مأخوذا من حكم المنطوق به ، ليستعمله المجتهد فيما إذا لم يجد فيه نصا ، فإن الحوادث غير منقرضة .
ومنها : أن يكون للتنبيه على غيره كما في قوله تعالى : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } فنبه بالقنطار على الكثير ، وبالدينار على القليل ، وإن كان حكم القليل والكثير سواء . ومنها : أن يكون الوصف هو الأغلب من أحوال ما قيد به ، فيذكره لغلبته ، كقوله تعالى { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } الآية وإن كانت مفاداة الزوجين تجوز مع وجود الحد وعدمه . وإن احتمل هذه الأمور وغيرها وجب النظر في كل مقيد ، فإن ظهر دليل على عدم تأثيره سقط حكم التقييد ، وصار في عموم حكمه كالمطلق ، وإن عدم الدليل وجب حكمه على تقييد ، وجعل شرطا في ثبوت حكمه .