[ اختلاف العلماء في حكم دلالات العقول ] وقال أبو زيد الدبوسي : اختلف العلماء في لولا الشريعة على أربعة أقوال : أحدها : أن الاشتغال به لغو ; لأن الله لم يدعنا والعقول بمجردها . والثاني : أنها حسنة بالعقل لولا الشريعة ، والثالث : التفصيل بين العبادات والمعاملات . فالعبادات كانت تجب لولا الشرع لا زاجر عنها إلا عند عدم الإمكان ، كالإيمان بالله ، وإنما سقط لا لضرورة بالشرع تيسيرا ، وإليه ذهب بعض حكم دلالات العقول على المشروعات الدينية الصوفية ، وأما العقوبات المعجلة فما وجبت إلا شرعا . الرابع : قال : وهو المختار عندنا أن على العبد بمجرد العقل الإيمان بالله ، واعتقاد وجوب الطاعة على نفسه من أمر ونهي ، لكنه تقف نفسه للبدار إلى ما يأمر به وينهاه من غير أن يقدم على شيء بالاستباحة تعظيما لله ، لا لقبح هذه المشروعات قبل الأمر بل يمنع العقل معرفة حسنها .
قال : وهو مذهب علمائنا ، ولهذا كان بعث الرسل على الله حقا واجبا ليمكنهم الإقدام على العبادة ، والتوقف للطاعة ضرب عناد فإنها تمثيل العقل فكان يلزم ذلك بمجرد العقل مع اعتقاد أنه مخلوق للعبادة المطلقة ، وأنها مجملة وأن الله يبين ذلك . والحاصل أن الحنفية يقولون : يجب اعتقاد كونه مأمورا ، وأما الإقدام على الفعل والترك فلا يأتي به إلا بعد الشرع ، ويظن كثير من الناس أن [ ص: 186 ] مذهب كمذهب أبي حنيفة المعتزلة وينصب الخلاف بينهم وبين الأشعرية ، لقول : لا عذر لأحد في الجهل بخالقه . وقوله : لو لم يبعث الله رسولا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم . لكن هذا الكلام قد فسره أبي حنيفة أبو عبد الله أحمد بن محمد الصابوني وهو العمدة عندهم .
قال : ليس تفسير وجوب الإيمان بالعقل أن يستحق العقاب بالعقل والثواب بالعقل ، إذ هما لا يعرفان إلا بالسمع لكن تفسيره عندنا نوع ترجيح . ا هـ . والأحسن في معناه الطريقة الأولى ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تنزيل ثالث في إيضاح آخر ، وقال بعض محققي الحنفية : عندنا الحاكم بالحسن والقبح هو الله تعالى ، ولا يقال : إن هذا مذهب الأشاعرة ; لأنا نقول : الفرق هو أن الحسن والقبح عند الأشاعرة لا يعرفان إلا بعد الشرع ، وعندنا قد يعرفهما العقل بخلق الله تعالى علما ضروريا بهما إما بلا كسب ، كحسن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبح الكذب الضار ، وإما مع كسب ، كالحسن والقبح المستفاد من الأدلة ، وترتيب المقدمات ، وقد لا يعرفان إلا بالكتاب والنبي كأكثر أحكام الشرع [ ص: 187 ] وحاصله : أن حسن المأمور به عندنا من مدلولات الأمر ، وعند الأشعري من موجباته .
واعلم أن كلام ابن برهان في موضع آخر يقتضي أن القائلين بالحسن والقبح قالوا : إن العقل موجب وحاكم ، وتبعه الآمدي وغيره . ويصير مطلع الخلاف يرجع إلى أن الشرع مثبت أو مقرر ؟ وأما الإمام فخر الدين وأتباعه فسلكوا طريقا لخصوا فيها محل النزاع ، فقالوا : : أحدها : ما يلائم الطبع وينافره ، كالحلاوة ، والمرارة ، والفرح والحزن ، وليس هذا محل النزاع لاختلافه باختلاف الأغراض . الثاني : كون الشيء صفة كمال أو نقص كالعلم والجهل ، وهما بهذين المعنيين عقليان . أي : يعرفان بالعقل بلا خلاف . الثالث : كون الفعل موجبا للثواب ، والعقاب والمدح والذم ، وهذا موضع النزاع ، فعندنا لا يعلم إلا بالشرع وعندهم بخلافه ، فالنزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا والعقاب آجلا . الحسن والقبح يطلقان بمعان ثلاثة
وقضية هذا أن الفعل لا يوجبه لتصريحه بالتعلق ، ونازعه القرافي ، فقال : النزاع في كون الفعل متعلقا للذم أو العقاب يشعر بأن ترتب الذم والعقاب على الفعل ينازع فيه ، وليس كذلك عندنا ولا عندهم ، إذ يجوز [ ص: 188 ] أن يحرم الله تعالى ويوجب ولا يعجل ذما بل يحصل الوعيد من غير ذم ، ويجوز أن يكلف ولا يوجد عقابا بل يعجله عقب الذنب ، وإنما النزاع في كون قلت : وجعل المقترح في شرح الإرشاد " من صور محل النزاع ما يتعارف قبل الشرع من الميل إلى الفعل والنفرة عنه . قال : الفعل متعلقا بالمؤاخذة الشرعية كيف كانت ذما أو غيره عاجلة أو آجلة هل يستقل العقل بذلك أم لا ؟ فالمعتزلة يدعون أن ذلك استحثاث العقل على الفعل ، ونحن نرى أنه مما جبل عليه الحيوان من شهوة ما ينفعه وكراهة ما يضره . ا هـ .
وهذا صريح في نقل الخلاف في الحالة الثانية التي جعلها الإمام محل وفاق . ثم قال : فرعت المعتزلة أن العقل مما يستحث على الفعل ; لأنه على صفة في نفسه لأجلها يحث على فعله ، ثم اضطربوا في هذه الصفة ، فقال قدماؤهم : صفة نفسية وقال متأخروهم : تابعة للحدوث . ثم قالوا : إنما نهى الشرع عن الفعل ; لأنه على صفة في نفسه لأجلها يقبح ، أو ; لأنه يؤدى فيقبح في نفسه . قال : وأصل هذه المسألة أخذتها المعتزلة من الفلاسفة فإنهم قالوا : العلم محمود لذاته ، والجهل مذموم لذاته ، وسائر الأفعال ليست عندهم محمودة لذاتها ، ولا مذمومة لذاتها بل لعروض عرض بالنسبة إليها ، فأخذ المعتزلة بهذا المذهب في العلم والجهل ، وعدوه إلى سائر الأفعال ، وعبر بعض الناس عن مذهب القوم بأن قال : عندهم أنه يدرك الحسن والقبح عقلا من غير أن يتوقف " على إخبار على مخبر " وليس في هذا [ ص: 189 ] إفصاح عن أنهم يردونه إلى صفة نفسية أو صفة تابعة للحدوث أو غير ذلك . ويقال لمن قال : إنها صفة نفسية : صفة النفس ما يتبع النفس في الوجود والعدم ، ويلزم منه إثبات الحسن والقبيح في القديم . ثم يلزم منه استحقاق الذم على المعدوم وذلك محال . ثم قسموا الأفعال إلى قسمين ، وقالوا : منها ما يدرك بالعقل ، ومنها ما لا يدرك بالعقل فيه حسنا ولا قبحا ، وإنما يعرف بالشرع ، وذلك لخفاء وصفه عن العقول ، وليس هو ثابتا بالخطاب وإنما الشرع كاشف عن حقيقته لما قصر العقل عنه .
قال في " تعليقه على البرهان " : ولكل مذهب سيئة وحسنة ، فمذهب الأشعرية أنهم نفوا الحسن في حق الله تعالى وفي حقنا ، فحسنتهم كونهم نفوه في حق الله تعالى وسيئتهم كونهم نفوه في حقنا ، ومذهب المعتزلة إثبات الحسن في حق الله وفي حقوقنا ، وسيئتهم كونهم أثبتوه في حق الباري ، وحسنتهم كونهم أثبتوه في حقنا . فاختار إمام الحرمين مذهبا بين مذهبين وهو الجامع لمحاسن المذاهب ، فأثبته في حقنا ونفاه في حق الباري . انتهى .