[ ص: 336 ] فصل في الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص
اعلم أن الأصوليين لم يتعرضوا للفرق بينهما ، وظن بعضهم أن الكلام فيه مما أثاره المتأخرون ، وليس كذلك . فقد وقعت التفرقة بينهما في كلام وجماعة من أصحابنا ، فاختلف قوله في قوله تعالى : { الشافعي وأحل الله البيع } : هل هو عام مخصوص أو عام أريد به الخصوص ؟
قال في تعليقه في كتاب البيع : والفرق بينهما أن الذي أريد به الخصوص ما كان المراد به أقل ، وما ليس بمراد هو الأكثر . قال الشيخ أبو حامد : وليس كذلك العام المخصوص ، لأن المراد به هو الأكثر ، وما ليس بمراد هو الأقل . قال : ويفترقان في الحكم من جهة أن الأول لا يصح الاحتجاج بظاهره ، وهذا يمكن التعلق بظاهره اعتبارا بالأكثر . أبو علي بن أبي هريرة
وفرق الماوردي في " الحاوي " بينهما من وجهين :
أحدهما : أن العام المخصوص ما يكون المراد باللفظ أكثر ، وما ليس بمراد باللفظ أقل ، والعام الذي أريد به الخصوص ما يكون المراد باللفظ أقل ، وما ليس بمراد باللفظ أكثر ، والثاني : أن المراد فيما أريد به الخصوص متقدم على اللفظ ، وفيما أريد به العموم متأخر عن اللفظ أو يقترن به . وممن تعرض للفرق بينهما من المتأخرين الإمام تقي الدين بن دقيق العيد ، [ ص: 337 ] فقال في " شرح الإمام " : يجب أن يتنبه للفرق بين قولنا : هذا عام أريد به الخصوص ، وبين قولنا : هذا عام مخصوص ، فإن الثاني أعم من الأول . ألا ترى أن المتكلم إذا أراد باللفظ أولا ما دل عليه ظاهر العموم ، ثم أخرج بعد ذلك بعض ما دل عليه اللفظ كان عاما مخصوصا ، ولم يكن عاما أريد به الخصوص . ثم يقال : إنه منسوخ بالنسبة إلى البعض الذي أخرج ، وهذا متوجه إذا قصد العموم ، وفرق بينه وبين أن لا يقصد الخصوص بخلاف ما إذا نطق باللفظ العام مريدا به بعض ما يتناوله في هذا . وفرق الحنابلة من المتأخرين بينهما بوجهين آخرين :
أحدهما : أن المتكلم إذا أطلق اللفظ العام ، فإن أراد به بعضا معينا فهو العام الذي أريد به الخصوص . وإن أراد سلب الحكم عن بعض منه فهو العام المخصوص ، مثاله قوله : قام الناس ، فإذا أردت إثبات القيام لزيد مثلا لا غير فهو عام أريد به الخصوص ، وإن أردت سلب القيام عن زيد فهو عام مخصوص .
والثاني : أن العام الذي أريد به الخصوص إنما يحتاج لدليل معنوي يمنع إرادة الجميع ، فيتعين له البعض . والعام المخصوص يحتاج إلى تخصيص اللفظ غالبا كالشرط والاستثناء ، والغاية والمتصل ، نحو : قام القوم ، ثم يقول : ما قام زيد .
وفرق بعض المتأخرين بأن العام الذي أريد به الخصوص هو أن يطلق العام ويراد به بعض ما يتناوله . هو مجاز قطعا ، لأنه استعمال اللفظ في بعض مدلوله ، وبعض الشيء غيره . قال : وشرط الإرادة في هذا أن تكون مقارنة لأول اللفظ ، ولا يكفي طروءها في أثنائه ، لأن المقصود منها نقل اللفظ عن معناه إلى غيره ، واستعمله في غير موضوعه ، وليست الإرادة فيه إخراجا لبعض المدلول ، بل إرادة استعمال اللفظ في شيء آخر غير موضوعه ، كما يراد باللفظ مجازه . [ ص: 338 ] وأما العام المخصوص فهو العام الذي أريد به معناه مخرجا منه بعض أفراده بالإرادة ، إرادة للإخراج لا إرادة للاستعمال . فهي تشبه الاستثناء ، فلا يشترط مقارنتها لأول اللفظ ، ولا تأخيرها عنه ، بل يكفي كونها في أثنائه ، كالمشيئة في الطلاق .
وهذا هو موضوع خلافهم في أن العام المخصوص مجاز أو حقيقة ، ومنشأ التردد أن إرادة إخراج بعض المدلول هل تصير اللفظ مرادا به الباقي أو لا ؟ وهو يقوي كونه حقيقة لكن الجمهور على المجاز ، والنية فيه مؤثرة في نقل اللفظ عن معناه إلى غيره . ومن هنا يعرف أن عد البدل في المخصصات ليس بجيد ، لأن الأولى في قولنا : أكلت الرغيف ثلثه أنه من العام المراد به الخصوص ، لا العام المخصوص . قال ابن الحاجب علي بن عيسى النحوي في كتاب " العرض والآلة " : إذا أتى بصورة العموم والمراد به الخصوص ، فهو مجاز إلا في بعض المواضع إذا صار الأظهر الخصوص ، كقولهم : غسلت ثيابي ، وصرمت نخلي ، وجاءت بنو تميم ، وجاءت الأزد . انتهى .