تنبيهات [ التنبيه ] الأول [ القصد من الحد ] بان مما سبق عن كلام أئمتنا أن التمييز بينه وبين غيره ، ولهذا قال القصد من الحد الأنصاري في " شرح الإرشاد " : قال إمام الحرمين : القصد من [ ص: 133 ] التحديد في اصطلاح المتكلمين : الفرق بخاصة الشيء وحقيقته التي يقع بها الفصل بينه وبين غيره . ا هـ . ولهذا كان الاضطراد والانعكاس لا يتم الحد إلا بهما . وأما المناطقة فقالوا : إن التصوير ، وبنوا على ذلك أمورا ستأتي . قال فائدة الحد أبو العباس بن تيمية في كتاب الرد عليهم : والذي عليه جميع الطوائف أن فائدته التمييز بينه وبين غيره ، وهو قول الأشعرية والمعتزلة وغيرهم ممن صنف في هذا الباب من أتباع الأئمة الأربعة . بل أكثرهم لا يجوز الحد إلا بما يميز المحدود ، لكنه لم يهتد إلى ما صار إليه أئمة الكلام في هذا المقام ، وهو موضع شريف ينبغي الإحاطة به فإن بسبب إهماله دخل الفساد في المعقول والأديان على كثير ، إذ خلطوا ما ذكره المنطقيون في الحدود بالعلوم النبوية ، وصاروا يعظمون أمر الحدود ، ونحن نبين أن الحدود لا تفيد تصوير الحقائق ، وطول الكلام في ذلك مما يوقف عليه من كلامه .
قلت : وبنى المنطقيون على هذا الأصل قواعد : إحداها : قالوا : الحد لا يكتسب بالبرهان أي لا يمكن تحصيله ببرهان وعقدوا الاستدلال عليه بما حاصله : أن البرهان إنما يكون في القضايا التي فيها حكم ، والحد لا حكم فيه ; لأنه تصور ، وهذا الإطلاق ممنوع بل الحق أنا إذا قلنا : الإنسان مثلا حيوان ناطق فله أربع اعتبارات : أحدها : تعريف الماهية ، وهو تصور لا حكم فيه فلا يستدل عليه ولا يمنع . ثانيها : دعوى الحدية ، وهذا يمنع ويستدل ببيان صلاحية هذا الحد [ ص: 134 ] للتعريف من اطراده وانعكاسه ، وصراحة ألفاظه . ثالثها : دعوى المدلولية ، وهو أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى لغة أو شرعا فهذا يمنع ويستدل عليه ، وهذا قاله الإمام فخر الدين في كتابه " نهاية العقول " ، وكذلك قيد به إطلاقهم منع اكتسابه بالبرهان . قال : أما لو أريد بالإنسان حيوان ناطق مدلوله لغة أو شرعا فلا بد له من النقل . رابعها : أن يراد به أن ذات الإنسان محكوم عليها بالحيوانية والناطقية فيتوجه عليه المنع والمطالبة ، ولا يكون ذلك حدا بل دعوى . ذكره ابن الحاجب الإمام فخر الدين أيضا .
وقال في " الملخص " : هذا بحسب الاسم ، أما إذا كان بحسب الحقيقة ، وهو أن يشير إلى موجود معين ، ويزعم أن حقيقته مركبة من كذا وكذا ، فلا شك أنه لا بد فيه من الحجة ، والذي أطلقه هنا في كتبه امتناع الاكتساب للحد بطريق البرهان مطلقا . وذكر عن " ابن سينا أفلاطون " أنه يكتسب بالقسمة ، وزيفه . فإن قيل : ما ذكرتموه يتوجه عليه النقض والمعارضة على الحد ، وقد اتفق النظار على توجههما . ثم أجاب بأن الحق عندنا : أن الحد ما لم ينضم إليه شيء من الدعاوى ، فإنه لا يتوجه إليه النقض ، وإنما يتوجه النقض على تسليم بعد الحد . مثاله : إذا قيل : العلم هو الذي يصح من الموصوف به أحكام الفعل ، [ ص: 135 ] فإذا قيل هذا منقوض بالعلم بالواجبات والمحالات ، فإنه علم ولا يفيد أحكاما ، فهذا النقض إنما يسلم بعد تسليم وجود العلم المتعلق بالمحالات . فلو لم تسلم هذه الدعوى لم يمكن توجه النقض إليه . قال : وكذا المعارضة لا يمكن القدح بها في الحد إلا عند تسليم الدعوى ، وإلا فالحقائق غير متعاندة في ماهياتها ، فإن من عارض هذا الحد بأنه الاعتقاد المقتضي سلوك النفس فليس بين هاتين الحقيقتين تعاند ، وإذا لم يكن بين الحقيقتين منافاة لم تتحقق المعارضة في الحدود .
القاعدة الثانية : وهي في الحقيقة مبنية على ما قبلها أن الحد لا يمنع ، فإن المنع يشعر بطلب الدليل ، والفرض أنه لا يبرهن عليه فلا معنى للمنع ، وبيان عدم الإمكان أنه في إقامة الدليل عليه يفتقر إلى إثبات مقدمتين . ثم في إثبات كل واحدة منهما يفتقر إلى إثبات مقدمتين أخريين ، وهكذا إلى غير نهاية ، فيلزم إما الدور أو التسلسل ، وهما باطلان ، وقال أبو العباس بن تيمية : يجوز ; لأنه دعوى فجاز أن يصادم بالمنع كغيره من الدعاوى . وفيما قاله نظر ، فإن مرجع المنع طلب البرهان ، وهو لا يمكن على ما قرروه ، وليس كل دعوى تصادم بالمنع بدليل الأوليات ، فإن الكلام إذا انتهى إليها وجب الوقوف عندها ، ولم يسمع منعها . وقال منع الحد الجاجرمي في رسالته " إن هذا ينشأ عن حد الحد ما هو ؟ حتى ينظر فيه أنه هل يمنع أم لا ؟ والحد قد يكون حقيقيا وقد يكون رسميا .