[ العقل ضربان ] ثم هو ضربان غريزي وهو أصل ، ومكتسب وهو فرع . فأما الغريزي : فهو الذي يتعلق به التكليف ، وأما المكتسب : فهو الذي يؤدي إلى صحة الاجتهاد وقوة النظر ، ويمتنع أن يتجرد المكتسب عن الغريزي ، ولا يمتنع أن يتجرد الغريزي عن المكتسب ; لأن الغريزي أصل يصح قيامه بذاته ، والمكتسب فرع لا يصح قيامه إلا بأصله ، ومن الناس من امتنع من تسمية المكتسب عقلا ; لأنه من نتائجه ، ولا اعتبار بالنزاع في التسمية إذا كان المعنى مسلما .
واختلف فيه في أمور : [ تفاوت العقول ] أحدها : هل يتفاوت ؟ والأصح كما قاله الإمام في " التلخيص " وسليم الرازي في " التقريب " وابن القشيري وغيرهم : أنه لا يتفاوت ، فلا يتحقق شخص أعقل من شخص ، وإن أطلق ذلك كان تجوزا ، أو صرفا إلى كثرة التجارب ، قال [ ص: 122 ] فإنا بعد أن قلنا : إنه بعض العلوم الضرورية فلا يتحقق التفاوت فيها ، وعن المعتزلة وكثير من الحنابلة أنه يتفاوت ; لقوله عليه السلام : { } . وقياس من فسر العقل بالعلم أنه يجري فيه الخلاف السابق في تفاوت العلوم ، والتحقيق : أنه إن أريد الغريزي فلا يتفاوت ، أو التجريبي فلا شك في تفاوته ، وإليه يميل كلام ناقصات عقل ودين ابن سراقة حيث قال : هو على ضربين : منه مخلوق في الإنسان ، ومنه يزداد بالتجربة والاعتبار ، ويزيد وينقص ، كالعلم والإرادة والشهوة ونحوها من أفعال القلوب ، ولهذا يقال : فلان وافر العقل وفلان ناقص العقل . الثاني : اختلفوا في محله : فقيل لا يعرف محله ، وليس بشيء ، وعلى المشهور فيه ثلاثة أقوال ، وعند أصحابنا كما نقله ابن الصباغ وغيره أنه القلب ; لأنه محل لسائر العلوم ، وقالت الفلاسفة والحنفية : الدماغ ، والأول : منقول عن أحمد والشافعي ، والثاني : منقول عن ومالك حكاه أبي حنيفة الباجي عنه ، ورواه ابن شاهين عن أيضا . أحمد بن حنبل
والثالث : أنه مشترك بين الرأس والقلب . [ ص: 123 ] وقال الأشعري : لك حاسة منه نصيب ، وهذا يصلح أن يكون قولا رابعا ، وذكر إمام الحرمين في " النهاية " في باب أسنان إبل الخطأ : أنه لم يتعين محله : وهذا يصلح أن يكون قولا خامسا . وقيل : الصدر ، ولعل قائله أراد القلب ، وقيل : هو معنى يضيء في القلب ، وسلطانه في الدماغ ; لأن أكثر الحواس في الرأس . ولهذا قد يذهب بالضرب على الدماغ . حكاه للشافعي ابن سراقة . قال : وقال آخرون من أصحابنا : هو قوة وبصيرة في القلب منزلته منه منزلة البصر من العين ، ونبه الماوردي في " أدب الدين والدنيا " على فائدتين : إحداهما : أن الخلاف في الغريزي .
أما التجريبي فمحله القلب قطعا . الثانية : أن هذا الخلاف مفرع على القول بأنه جوهر لطيف يفصل به بين حقائق المعلومات ، وأن من نفى كونه جوهرا أثبت أن محله القلب ، وقال العبدري في " شرح المستصفى " : الخلاف في أن العقل محله ماذا ؟ مما يلتبس على كثير . فإنهم إن عنوا به القوة الناطقة على ما يظهر [ ص: 124 ] من كلامهم فخطأ ; لأنه ليست لها آلة ولا هي منسوبة إلى عضو من الأعضاء ، وإنما الذي ، ينبغي أن يقع الخلاف فيه . هل هي القوة المفكرة التي تنسب إلى الدماغ ؟ وهي ملتبسة بالقوة الناطقة من وجهين : كونها مختصة بالإنسان ، وكونها مميزة ، ولهذا الالتباس ظنوا أنها القوة الناطقة ، وحكوا فيها الخلاف . والذي غلطهم في ذلك عكس القضية الموجبة الكلية مثل نفسها ، وذلك أنه لما كانت القوة الناطقة مميزة مختصة بالإنسان عكسوا القضية ، فقالوا : كل قوة مميزة خاصة بالإنسان فهي قوة ناطقة . وليس كذلك ، إذ في الإنسان قوة أخرى مميزة خاصة به ، وليست الناطقة . والفرق بينهما : أن هذه موجودة في الإنسان لها آلة جسمانية بمنزلة سائر قوى النفس فهذه إذن يجب النظر في آلتها الدماغ أو القلب ، فأما القوة الناطقة التي سموها عقلا ، فليست قوة في جسم أصلا ، ولا هي جسم ، ولا لها آلة جسمانية . والفرق بين تمييزيهما : أن تمييز المفكرة شخصي ; لأنها تميز معنى الشيء المخيل المشخص تمييزا شخصيا ، فهي تالية للقوة المتخيلة ، كما أن المتخيلة تالية للقوة الحسية ، فهي إذن أكثر روحانية من التخيلية ، ولهذا اختصت بالإنسان ، وتمييز الناطقة كلي وهي عرية من مخالطة الجسم ، وليست من جنس القوى الحادثة الشخصية فافترقا ، وليست روحانيتها كذلك ، فلذلك شارك فيها الإنسان سائر الحيوانات .
وما يتفرع على الخلاف في أن محله ماذا ؟ ما لو ، فعند أوضح رجل ، فذهب عقله الشافعي يلزمه دية العقل ، وأرش الموضحة ; لأنه إنما أتلف عليه منفعة ليست في عضو الشجة تبعا لها ، وقال ومالك : إنما [ ص: 125 ] عليه العقل فقط ; لأنه إنما شج رأسه . وأتلف عليه العقل الذي هو منفعة في العضو المشجوج ، ودخل أرش الشجة في الدية . أبو حنيفة