الموطن الثاني
في مثل أن يطلق النكاح ، ويريد به العقد والوطء جميعا ، وفيه الحالان السابقان من الاستعمال والحمل . أما الاستعمال ففيه مذاهب : استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه
أحدها : وهو مذهب وجمهور أصحابنا كما قاله الشافعي النووي في باب الأيمان من " الروضة " جواز إرادة الحقيقة والمجاز بلفظ واحد ، [ ص: 400 ] وكأن الرافعي لم يقف على النقل عندنا في ذلك ، فقال : استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز مستبعد عند أهل الأصول ، وهو قول القاضي صرح به في كتاب " التقريب " وغلط من نقل عنه المنع وإنما منع الحمل لا الاستعمال كما سنحققه عنه .
وأما فجرى على منوال واحد ، فجوز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وحمله عند الإطلاق عليهما . الشافعي
وأخرج ابن الرفعة نصه على ذلك في " الأم " عند الكلام فيما إذا عقد لرجلين على امرأة ، ولم يعلم السابق منهما ، ذكر ذلك في باب الوصية من " المطلب " .
وقال إمام الحرمين وابن القشيري : إنه ظاهر اختيار ، فإنه قال في مفاوضة له في آية اللمس : هي محمولة على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازا . الشافعي
قلت : وكذلك نصه في قوله تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فإنه احتج به على جواز العبور في المسجد لقوله : { إلا عابري سبيل } ، وقال : أراد مواضع الصلاة ، وحمل اللفظ على الصلاة وعلى مواضعها ، ودل على الصلاة قوله : { حتى تعلموا } ، وعلى مواضعها قوله : إلا عابري سبيل " فحمل اللفظ على حقيقته ومجازه ، وأما نصه في " البويطي " على أنه لو أوصى لمواليه وله عتقاء ولهم عتقاء أنها تختص بالأولين مع أنهم مواليه ، والآخرون مجازا بالسببية ، وكذلك لو على الأصح ، فليس ذلك [ ص: 401 ] لأجل منع الجمع بين الحقيقة والمجاز ، بل لأن مسألتنا عند الإطلاق والقرينة هنا عينت الحقيقة ، أما الأولى فلأن ولاء مواليهم لهم دونه . وقف على أولاده لم يدخل ولد الولد
أما الثانية : قال الغزالي : والتعميم بين الحقيقة والمجاز أقرب منه بين حقيقتين .
والمذهب الثاني : وهو قول الحنفية ، واختاره من أصحابنا ابن الصباغ في " العدة " وابن برهان في " الوجيز " ، ونقله صاحب " المعتمد " عن أبي عبد الله البصري وأبي هاشم ، لأن الحقيقة أصل والمجاز مستعار ، فلا يتصور اجتماعهما كما لا يتصور كون الثوب على اللابس ملكا وعارية في وقت واحد . والكرخي
ونقض ابن السمعاني عليهم بقولهم : لو حنث . قال : تناول الحقيقة والمجاز . قال : لو حلف لا يضع قدمه في الدار ، فدخل راكبا وماشيا حنث . قال : اليوم الذي يدخل فلان الدار فعبده حر ، فدخل ليلا ونهارا
وقالوا في " السير الكبير " : لو أخذ الأمان لبنيه دخل بنوه وبنو بنيه ، والظاهر من مذهبنا في الأولى عدم الحنث ، لأنه لا قرينة على إرادة الأشهر فخالفنا القاعدة لهذا ، وفي الثانية موافقتهم ، لأنه نقل الرافعي عن " التتمة " لو طلقت في الحال وإن كان بالليل . ويلغوا اليوم ، لأنه لم يعلق ، وإنما سمى الوقت بغير اسمه ، وفي الثالثة عدم الدخول كما في الوقف على الأولاد ، ولم يحكموا بقية المذاهب السابقة في الحقيقتين ولا يبعد مجيئها . قال : أنت طالق اليوم
وأما الحمل فالمنقول عن الجواز طردا لأصله هناك وأما الشافعي فسبق عنه هناك الإجمال ، وأنه لا يحمل إلا بقرينة . [ ص: 402 ] القاضي أبو بكر
وأما هاهنا فقال إمام الحرمين في " البرهان " : وقد عظم نكير القاضي على من يرى الحمل على الحقيقة والمجاز معا ، وقال في تحقيق إنكاره : اللفظة إنما تكون حقيقة إذا انطبقت على ما وضعت له في أصل اللسان ، وإنما تصير مجازا إذا تجوز بها عن مقتضى الوضع ، ويحيل الجمع بين الحقيقة والمجاز محال الجمع بين النقيضين .
قلت : من هنا نقل عن القاضي أنه لا يجوز أن يراد باللفظ الواحد حقيقته ومجازه معا كما يلزم منه في الجمع بين النقيضين ، ولم يرد القاضي ذلك ، وقد صرح في " التقريب " بجواز الإرادة ، وإنما الذي منعه الحمل عليهما .
قال الإمام : وقول القاضي هو جمع بين النقيضين يرجع إلى اشتقاق الحقيقة والمجاز ، وقال في " شرح التلقين " : استدرك بعض المحققين على المازري القاضي هذا ، وقال : إنما يمنع في حق من خطر بباله من المخلوقين في خطابه حقيقة الحقيقة وحقيقة المجاز ، وأما إذا كان القصد إرسال اللفظة على جميع ما تطلق عليه دون القصد إلى حقائق أو مجاز ، فإن هذا يصح دعوى العموم فيه .
وحقق ابن القشيري مذهب القاضي ، فقال : واعلم أنه يجوز أن يطلق المطلق لفظ اللمس ، ويريد به الحقيقة والمجاز ، فيقول : اللمس ينقض الوضوء وهو يعنيهما ، وقد صرح بتجويزه في بعض كتبه .
قال القاضي : وفي هذا أصل يدق على الفهم ، وهو أن مطلق اللفظ لو خطر له أن يستعمل اللفظ حقيقة ويستعمله مجازا لم يتصور الجمع بين المعنيين ، لأن الحقيقة تقتضي قصرها ، والتجوز يقتضي تعديتها عن أصل [ ص: 403 ] وضعها ، وأما من أراد باللفظ المسميين من غير تعرض الاستعمال حقيقة وتجوزا ، فهذا هو الجائز .
قال ابن القشيري : يعني بهذا أن اللفظ الواحد لا يكون حقيقة ومجازا في شيء واحد ، حتى يكون الأسد في البهيمية حقيقة ومجازا ، وأيضا لا يجوز أن يستعمل هذا اللفظ حقيقة من غير تعدية في حال ما تريد أن تستعمله مجازا مع التعدية ، فإنه متناقض .
قال : وما أوهمه كلام إمام الحرمين من أن للقاضي خلافا في المسألة فهو وهم ، لأنه صرح بهذا الذي ذكرناه ، فقال : كل لفظة تنبئ عن معنيين متناقضين لا يجتمعان ، فلا تجوز إرادتهما باللفظة الواحدة كلفظ " افعل " عند منكري الصيغة مترددا بين الإيجاب والندب والإباحة والنهي ، فلا يصح إرادة هذه المعاني باللفظة الواحدة لتناقضها .
قلت : هذا إنما قاله القاضي شرطا للجوار ، وهو أنه حيث يصح الجمع كما اشترط ذلك في الحقيقتين لا منع الإرادة مطلقا .
وقال في " التقريب " ولخصه الإمام في " التلخيص " : اعلم أن إرادة الجمع إنما تصح ممن لا يخطر له التعرض للحقيقة والمجاز ، ولكن يقتصر على إرادة المسلمين من غير تعرض لوجه الاستعمال حقيقة وتجوزا ، وفي المسألة مذهب ثالث صار إليه في " الملخص " أنه يحمل على الحقيقة خاصة ، لأنها الأصل ورابع حكاه القاضي عبد الوهاب القاضي أيضا أنه يتوقف فيه حتى يبين المراد .