مسألة [ المحكم والمتشابه ] كما قال تعالى : { في القرآن محكم ومتشابه منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } وقد يوصف جميع القرآن بأنه متشابه بمعنى أنه متماثل في الدلالة والإعجاز ، قال الله تعالى : { كتابا متشابها مثاني } ، وقد يوصف بأنه محكم بمعنى أنه أحكم على وجه لا يقع فيه تفاوت . قال الله تعالى : { كتاب أحكمت آياته } والمحكم إما بمعنى المتقن كقوله : { أحكمت آياته } والقرآن كله محكم بهذا المعنى ، وإما في مقابلة المتشابه كقوله تعالى : { منه آيات محكمات } . واختلف فيه بهذا المعنى على أقوال كثيرة منتشرة . [ ص: 189 ] أحدها : أنه ما خلص لفظه من الاشتراك ولم يشتبه بغيره ، وعكسه المتشابه . الثاني : أن المحكم ما اتصلت حروفه ، والمتشابه ما انفصلت ، كالحروف المتقطعة في أوائل السور ، وهو باطل فإن الكلمة قد تتصل ولا تستقل بنفسها ، وتتردد بين احتمالات وتعد متشابهة . الثالث : أن المحكم ما توعد به الفساق ، والمتشابه ما أخفى عقابه ، وقد حرمه كالكذبة والنظرة . حكاه عن الأستاذ أبو منصور وغيره ومنهم من حكى عنه أن المحكم هو الوعيد على الكبائر والمتشابه على الصغائر ، ونسبه واصل بن عطاء أيضا . الرابع : أنه ما احتج به على الكفار حكاه لعمرو بن عبيد عن الأستاذ أبو منصور الأصم . الخامس : أنه الوعد والوعيد في الأحكام ، والمتشابه : القصص وسير الأولين ، لأن المحكم ما استفيد الحكم منه ، والمتشابه ما لا يفيد حكما . حكاه الإمام في " التلخيص " قال : واللغة لا تشهد لذلك السادس : أنه نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة والكتب المتقدمة ، والمتشابه نعته في القرآن ، ونسب للأصم . السابع : أنه الناسخ ، والمتشابه : المنسوخ . ونقل عن أن المنسوخ لا يستفاد منه حكم ، ولفظ النسخ فيه إجمال ، فكأنهم أرادوا قوله تعالى : { ابن عباس فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته } ولكن القرآن كله محكم . الثامن : المتشابه : آيات القيامة ، والباقي محكم قاله الزجاج إذا لم ينكشف الغطاء عنها بدليل قوله تعالى : { فيتبعون ما تشابه منه } وكانوا لا يتبعون إلا أمر الساعة بدليل قوله تعالى : [ ص: 190 ] { يسألونك عن الساعة } التاسع : أن المتشابه ما عسر إجراؤه على ظاهره كآية الاستواء . قال في المنخول : وإليه مال . العاشر : أن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا ، والمتشابه ما احتمل أوجها ، وحكاه ابن عباس الماوردي في تفسيره " عن ، وجرى عليه أكثر الأصوليين . قال الشافعي الماوردي : ويحتمل أن يقال : المحكم ما كانت معاني أحكامه معقولة بخلاف المتشابه ، كأعداد الصلوات ، واختصاص الصيام برمضان دون شعبان . الحادي عشر : أن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان ، وحكاه القاضي من الحنابلة عن . قال : والمتشابه هو الذي يحتاج إلى بيان ، فتارة يبين بكذا وتارة بكذا ، لحصول الاختلاف في تأويله . قال : وذلك نحو قوله تعالى : { الإمام أحمد يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } لأن القرء مشترك بين الحيض والطهر ، وقوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } قال : وهذا قول عامة الفقهاء . قلت : وهو قريب من الأول . والثاني عشر : أن المحكم ما أمكن معرفة المراد بظاهره أو بدلالة [ ص: 191 ] تكشف عنه ، والمتشابه : ما لا يعلم تأويله إلا الله . قال : وهذا هو الصحيح عندنا . وقال الأستاذ أبو منصور ابن السمعاني : إنه أحسن الأقاويل ، وهو المختار على طريقة السنة . قال : وعلى هذا فالوقف التام على قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله } وأما إمام الحرمين في " التلخيص " فقال : هو قول باطل ، لأن اللغة لا تساعده على ذلك ، ورب كلام يفهم معناه وهو متناقض . قال : والسديد أن يقال : المحكم : السديد النظم والترتيب الذي يفضي إلى إثارة المعاني ، المستقيم من غير مناف . والمتشابه : هو الذي لا يحيط العلم بالمعنى المطلوب منه من حيث اللغة إلا أن تقترن أمارة أو قرينة ، ويندرج تحته المشترك كالقرء . واختار بعض المتأخرين : أن المحكم هو الواضح المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال مأخوذ من الإحكام ، وهو الإتقان ، والمتشابه نقيضه ، فيدخل في المحكم النص والظاهر ، وفي المتشابه الأسماء المشتركة كالقرء واللمس وما يوهم التشبيه في حق الله تعالى .
قال : ولا يدخل في ذلك الحروف في أوائل السور ، إذ ليست موضوعة باصطلاح سابق ، فتوهم الإشكال ، ولم يثبت فيها توقيف فيتبع ، بل نقول فيها : كما قال رضي الله عنه : إنها من أمر الله تعالى . الصديق
ومقصود هذا البحث : أن ويوقف في تأويله إن لم يعبه دليل قاطع . محكم القرآن يعمل به والمتشابه يؤمن به