[ ص: 496 ] الفصل السادس في أحكام الإجماع [ ] وفيه بحثان : الأول في تحريم مخالفته وفيه مسألة واحدة ، وهي أن من أنكر الإجماع ، هل يكفر ؟ وهو قسمان . أحدهما : إنكار كون الإجماع حجة فينظر إن أنكر حجية الإجماع السكوتي ، أو الإجماع الذي لم ينقرض أهل عصره ، ونحو ذلك من الإجماعات التي اعتبر العلماء المعتبرون في انتهاضها حجة ، فلا خلاف أنه لا يكفر ، ولا يبدع ، وإن أنكر أصل الإجماع ، وأنه لا يحتج به ، فالقول في تكفيره ، كالقول في تكفير أهل البدع والأهواء . والثاني : أن ينكر حكم الإجماع ، فيقول مثلا : ليست الصلاة واجبة ، وليس لبنت الابن مع الأم السدس فله أحوال . أحدها : بأن يكون قد بلغه الإجماع في ذلك وأنكره ، ولج فيه ، فإن كانت معرفته ظاهرة كالصلاة كفر ، أو خفية كمسألة البنت ففيه تردد . حكم منكر الإجماع
ثانيها : أن ينكر وقوع الإجماع بعد أن يبلغه ، فيقول : لم يقع ، ولو وقع لقلت به ، فإن كان المخبر عن وقوعه الخاصة دون العامة ، كمسألة [ ص: 497 ] البنت ، فلا يكفر على الأظهر ، وإن كان المخبر الخاصة والعامة كالصلاة كفر . وثالثها : أن لا يبلغه فيعذر في الخفي دون الجلي ، إن لم يكن قريب العهد بالإسلام . وذكر جماعة من أصحابنا منهم البغوي في أوائل التهذيب " ، وإلكيا ، وابن برهان ، وابن السمعاني ، وغيرهم تقسيم الإجماع إلى ثلاثة أقسام . الأول : ما يشترك الخاصة والعامة فيه كأعداد الصلوات وركعاتها ، والحج والصيام ، وزمانهما وتحريم الزنى ، والخمر والسرقة ، فمن اعتقد في شيء من ذلك خلاف ما انعقد عليه الإجماع فهو كافر ; لأنه صار بخلافه جاحدا لما قطع من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصار كالجاحد لصدقه . قال إلكيا ويكفر مخالفه من حيث إنه منقول عن الشرع قطعا ، فإنكاره كإنكار أصول الدين . والثاني : إجماع الخاصة فقط ، وهو ما ينفرد بمعرفته العلماء كتحريم المرأة على عمتها وخالتها ، وإفساد الحج بالوطء قبل الوقوف ، وتوريث الجدة السدس ، ومنع توريث القاتل ، ومنع الوصية للوارث . فإذا اعتقد في شيء من ذلك خلاف ما عليه الإجماع يحكم بضلاله وخطئه ، ومعصيته بإنكار ما خالف . قال البغوي : ومنه أنه يجمع علماء كل عصر على حكم حادثة إما قولا أو فعلا ، فهو حجة لكن لا يكفر جاحده ، بل يخطأ ويدعى إلى الحق ، ولا مساغ له فيه لاجتهاد . ا هـ .
وهو ظاهر ; لأن هذا إجماع ظني ، لا قطعي . لكن حكى الأستاذ أبو إسحاق خلافا فيمن جحد مجمعا عليه غير معلوم بالضرورة ، هل يكفر ؟ فقال : فيه وجهان مبنيان على أن ما أجمع عليه [ ص: 498 ] الخاصة والعامة ، هل العامة مقصودة ؟ وجهان : فعلى الأول لا يكفر ; لأنه لم يخالف جميع المعصومين في الإجماع ، وعلى الثاني يكفر وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق ، وأطلق الرافعي القول بالكفر بجحود الحكم المجمع عليه . واستدرك عليه النووي ، وفصل بين أن يكون فيه نص ، وهو من الأمور الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام فكافر ، وإن اختص بمعرفته الخاصة فلا ، وبين أن يكون ظاهرا لا نص فيه ، ففي الحكم بتكفيره خلاف ، وصحح في باب الردة فيه القول بالتكفير . وما جزم به النووي من التكفير في القسم الأول فيه خلاف ، أشار إليه الرافعي في باب حد الشرب ، فقال : من استحل شرب الخمر كفر ، للإجماع على تحريمه ، ولم يستحسن الإمام إطلاق القول بتكفير المستحل فقال : كيف يكفر من خالف الإجماع ، ونحن لا نكفر من رد أصل الإجماع ، وإنما نبدعه ونضلله . وأول ما ذكره الأصحاب على ما إذا صدق المجمعين على أن التحريم ثابت في الشرع ، ثم حلله ، فإنه يكون رادا للشرع . قال الرافعي : وهذا أوضح فليحرر . مثله في سائر ما حصل بالإجماع على افتراضه فنفاه ، أو تحريمه فأثبته . ا هـ .
والذي قاله الإمام في البرهان " : أن من ، كان هذا التكذيب آيلا إلى تكذيب الشارع ومن كذب الشارع كفر . والقول الضابط فيه : أن من أنكر طريقا في ثبوت الشرع لم يكفر ، ومن اعترف بكون الشيء من الشرع ثم جحده ، كان منكرا للشرع . وإنكار بعضه كإنكار كله . [ ص: 499 ] وقال اعترف بالإجماع ، وأقر بصدق المجمعين في النقل ثم أنكر ما أجمعوا عليه في ديباجة كتابه المحيط " في إنكار إجماع الخاصة : إن كان من العلماء فهو مرتد ; لأنه لا يخفى عليه ، وإن كان من العوام ففي الحكم بردته وجهان ، وعليهما نقتله . لكن على الثاني نقتله حدا ، وعلى الأول للردة . وقال الشيخ أبو محمد الجويني الإمام أبو الفضل الفزاري فقيه الحرم : من جحد أصلا مجمعا عليه كفر . وقال إمام الحرمين : لا يكفر إلا بما اشترطنا في الإسلام إذا أنكره . وقال أبو الحسين السهيلي في أدب الجدل " : الأقرب أن ينظر في المخالف للإجماع ، فإن كان لا يعتقد كونه حجة فإنه يخطأ ، ويفسق ، ولا يكفر ، وإن كان يعتقد أنه حجة ، فإن ثبت الإجماع بالتواتر فهو كافر ; لأنه مقر على نفسه بالمعاندة ، وإن ثبت بالآحاد فإنه مخطئ أو فاسق . واعلم أن كلام الآمدي ، في هذه المسألة في غاية القلق ، فإنهما حكيا مذاهب في منكر حكم الإجماع القطعي ، ثالثها : المختار أن نحو العبادات الخمس يكفر ، وهذا يقتضي أن له قولا بالتكفير في الأمر الخفي ، وقولا بعدمه في نحو العبادات الخمس وليس كذلك . وعبارة وابن الحاجب الهندي في النهاية " هنا في غاية الحسن ، فإنه قال : جاحد الحكم المجمع عليه من حيث إنه مجمع بإجماع قطعي لا يكفر عند الجماهير خلافا لبعض الفقهاء وإنما قيدنا بقولنا : " من حيث إنه مجمع عليه " لأن من أنكر وجوب الصلوات الخمس ونحوها يكفر ، وهو مجمع عليه ، لكن لا لأنه مجمع عليه ، بل لأنه معلوم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما قيدنا بالإجماع القطعي ، لأن جاحد حكم الإجماع الظني لا يكفر وفاقا . انتهى . [ ص: 500 ]
وقال أبو العباس القرطبي - رحمه الله - : الحق في هذه المسألة التفصيل ، فإن قلنا : إن أدلة الإجماع ظنية ، فلا شك في نفي التكفير ; لأن المسائل الظنية اجتهادية ، ولا نكفر فيها بالاتفاق ، وإن قلنا قطعية ، فهؤلاء هم المختلفون في تكفيره ، والصواب أن لا يكفر ، وإن قلنا : إن تلك الأدلة قطعية متواترة ; لأن هذا لا تعم معرفته كل أحد بخلاف من جحد سائر المتواترات ، والتوقف عن التكفير أولى من الهجوم عليه ، فقد قال عليه السلام : { } . ا هـ . وقد قال من قال لأخيه يا كافر ، فقد باء أحدهما ، فإن كان كما قال وإلا جاءت عليه ابن دقيق العيد : أما من قال : إن دليل الإجماع ظني ، فلا سبيل إلى تكفير مخالفه كسائر الظنيات ، وأما من قال : إن دليله قطعي ، فالحكم المخالف فيه إما أن يكون طريق إثباته قطعيا أو ظنيا . فإن كان ظنيا ، فلا سبيل إلى التكفير ، وإن كان قطعيا ، فقد اختلفوا فيه ولا يتوجه الخلاف فيما تواتر من ذلك عن صاحب الشرع بالنقل ، فإنه يكون تكذيبا موجبا للكفر بالضرورة ، وإنما يتوجه الخلاف فيما حصل فيه الإجماع بطريق قطعي ، أعني أنه ثبت وجود الإجماع به إذا لم ينقل أهل الإجماع الحكم بالتواتر عن صاحب الشرع ، فتلخص أن الإجماع تارة يصحبه التواتر بالنقل عن صاحب الشرع وتارة لا . فالأول لا يختلف في تكفيره ، والثاني قد يختلف فيه . فلا يشترط في النقل عن صاحب الشرع لفظ معين ، بل قد يكون ذلك معلوما بالقطع بأمور خارجة عن الحصر ، كوجوب الأركان الخمسة . فتنبه لهذا ، فقد غلط فيه من يعتقد في نفسه ، ويعتقد من المائلين إلى الفلسفة ، حيث حكم [ ص: 501 ] بكفر الفلاسفة لإنكارهم علم البارئ عز وجل بالجزئيات ، وحدوث العالم ، وحشر الأجساد ، فتوهم هذا الإنسان أن يخرج على الخلاف في مخالف الإجماع ، وهو خطأ فاحش ، لأن هذا من القسم الذي صحب التواتر فيه الإجماع تواترا قطعيا معلوما بأمور غير منحصرة . ا هـ . وكأنه يريد ، فإن له كتاب فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال " ورد على ابن رشد الغزالي في تكفير الفلاسفة في ذلك .