مسألة [ أقسام خبر الواحد ] قسم الأقدمون من أصحابنا ، منهم في كتابه ، القفال الشاشي والماوردي ، وابن السمعاني ، خبر الواحد إلى أقسام : أحدها : . قال ما يحتج به فيه إجماعا كالشهادات والمعاملات القفال : ولا خلاف في قبوله ، لقوله تعالى : { إذا دعيتم فادخلوا } قال الماوردي ومن بعده : ولا يراعى فيها عدالة المخبر ، وإنما يراعى فيها سكون النفس إلى خبره ، فيقبل من كل بر وفاجر ، ومسلم وكافر ، وحر وعبد ، فإذا قال الواحد منهم : هذه هدية فلان إليك ، أو هذه الجارية وهبها فلان إليك ، أو كنت أمرته بشرائها فاشتراها ، كلف المخبر قبول قوله إذا وقع في نفسه صدقه ، ويحل له استمتاع بالجارية والتصرف في الهدية ، وكذا الإذن في دخول الدار ، وهذا شيء متعارف في الأعصار من غير نكير ، ويلتحق به في ذلك على الصحيح . وأما خبر الصبي فيعتبر فيه شرطان بالإجماع : العدالة ، والعدد . قال خبر الشهادات القفال : وقد ورد الكتاب والإجماع بقبولها في الجملة ، وإن [ ص: 130 ] اختلف في شرط بعضها الأكثرون منا ومن المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار إلى نفيه ، وهو قول أبي جعفر الطوسي من الإمامية . وذهب الأقلون من الفريقين كابن سريج ، والصيرفي والقفال منا ، وأبي الحسين البصري من المعتزلة ، إلى أن الدليل العقلي دل عليه أيضا ; لاحتياج الناس إلى معرفة بعض الأشياء من جهة الخبر ، ومن بعدها أعظم الضرر إذ لا يمكنهم التلافي بأجمعهم . ونقل عن ، والأول هو الصحيح ، وفصل الإمام أحمد بن حنبل أبو عبد الله البصري بين الخبر الدال على ما يسقط بالشبهة ، وما لا يسقط بها ، فمنعه في الأول وجوزه في الثاني . حكاه في الأحكام " ، وقد بسط كلامه في هذا الفصل في كتاب الرسالة " . وقد احتجوا على وجوب العمل بخبر الواحد بقوله تعالى : { الشافعي إن جاءكم فاسق } وبقوله : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } وهذا لا يفيد إلا الظن ، والاستدلال بالثانية أضعف من الأولى . [ ص: 131 ]
قال ابن دقيق العيد : والحق عندنا في الدليل بعد اعتقاد أن المسألة علمية أنا قاطعون بعمل السلف والأمة بخبر الواحد ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ورد منه ما يقتضي العمل بخبر الواحد ، وهذا القطع حصل لنا من تتبع الشريعة ، وبلوغ جزيئات لا يمكن حصرها ، ومن تتبع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وجمهور الأمة ما عدا هذه الفرقة اليسيرة علم ذلك قطعا . ا هـ . ولنا على وجوب العمل به ثلاثة مسالك . الأول : ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إنفاذ ولاته ورسله آحادا إلى أطراف البلاد النائية ; ليعلموا الناس الدين ، وليوقفوهم على أحكام الشريعة ، ومن طالع كتب السير ارتوى بذلك . والثاني : ما علم بالتواتر من عمل الصحابة ورجوعهم إليه عندما يقع لهم من الحوادث . والثالث : أن العمل بخبر الواحد يقتضي دفع ضرر مظنون فكان العمل به واجبا ; لأن العدل إذا أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر بكذا ، حصل ظن أنه وجد الأمر ، وأنا لو تركناه لصرنا إلى العذاب ، وبهذا الدليل استدل ابن سريج ومتابعوه على وجوب العمل به عقلا . ونقول : سبب الاضطرار إلى العمل به ، أما في الشهادات والفتوى والأمور الدنيوية كالإذن في دخول الدار ونحوها فظاهر ، فإنه يشق على الناس الرجوع في ذلك ونحوه إلى الأخبار المتواترة ووقوفهم عندها ، وقد وقع الاتفاق على ذلك بين جميع العلماء .
وأما في الأحكام الشرعية فلأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ليعلمها الناس ، وهو صلى الله عليه وسلم مبعوث لجميع الناس ، مضطر إلى تبليغ الناس كلهم تلك الأحكام ، وليس يمكنه ذلك بمشافهة الجميع ، فلا بد من بعث الرسل إليهم بالتبليغ ، وليس عليه أن يسير إلى كل بقعة عددا متواترا ، فلزم بالضرورة أن التبليغ يكون بأخبار الآحاد . [ ص: 132 ] ويلزم من ذلك وجوب العمل بها ، وإلا لم يلزم المبعوث إليهم العمل بما يقوله الرسل ، فبطل فائدتهم . هذا إذا كان أكثر عنه مما يكتفى فيه بالظن . أما ما يطلب فيه اليقين كالعلم بالله وصفاته ، فإن ذلك لا يجوز العمل فيه بهذه الأخبار ; لأنها لا تفيد العلم ، والظن في ذلك غير جائز . فكيف يمكن تبليغ هذه إلى الناس كلهم ؟ فنقول : إن ذلك يمكن بأن يرسل فيها الآحاد أيضا ، ولكنه يشير في كلامه إلى البرهان العقلي مما يخبرهم به ممن يكون له فطانة ، فيتنبه بذلك الخبر إلى ذلك البرهان بطريق العقل ، ومن لا فطانة له فقد يتعلم على الطول ، وقد يسافر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستقصي به ذهنه شرعا . فإن قيل : فهلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في جميع الأحكام الشرعية ، فكانت كلها علمية ؟ قلنا : هذا غير ممكن . أما إذا قلنا : إن الأحكام لا تعرف إلا بالشرع فظاهر ، وإن قلنا بالعقل ، فتكليف الناس الوقوف على براهين جميع الأحكام الشرعية مما يشق جدا ، ويشغلهم عن الأعمال التي لا بد منها في عمارة البلد ، فلذلك اكتفى الشارع في هذه الأحكام بالظن . فكفت فيها أخبار الآحاد ، وإشارات البراهين العقلية في الأحكام التي لا بد فيها من اليقين ، وهي التي يتوقف عليها الإيمان فيتم بذلك تبليغه الناس كلهم جميع الأحكام .
تنبيهات . الأول : قولهم : إنه يوجب العمل . قال إمام الحرمين : في العبارة تساهل ; لأن نفس الخبر لو أوجب العمل لعلم ذلك منه ، وهو لا يثمر علما ، وإنما وجب العمل عند سماعه بدليل آخر ، فالتحقيق أنه يجب العمل عنده لا به ، وهذا سهل . [ ص: 133 ] الثاني : أن صنف كتابا في إثبات العمل بخبر الواحد ، وذكر في أوله الحديث المشهور : { الشافعي } فاعترض رحم الله امرأ سمع مقالتي أبو داود ، وقال : أثبت خبر الواحد بخبر الواحد ، والشيء لا يثبت بنفسه ، كمن ادعى شيئا ، فقيل له : من يشهد لك ؟ فقال : أنا أشهد لنفسي . قال الأصحاب : هذا الذي ذكره باطل فإن لم يستدل بحديث واحد ، وإنما ذكر نحوا من ثلاثمائة حديث ، وذكر وجوه الاستدلال فيها ، فالمجموع هو الدال عليه ، ثم قال الشافعي بعد ذلك : ومن الذي ينكر خبر الواحد ، والحكام آحاد ، والمفتون آحاد ، والشهود آحاد . الشافعي