فصل .
[ القول في القياس ]
وقوله : " ثم الفهم الفهم فما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ، ثم قايس الأمور عند ذلك ، واعرف الأمثال ، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق " هذا أحد ما اعتمد عليه القياسون في الشريعة ، وقالوا : هذا كتاب إلى عمر ، ولم ينكره أحد من الصحابة ، بل كانوا متفقين على أبي موسى ، وهو أحد أصول الشريعة ، ولا يستغني عنه فقيه . القول بالقياس
[ ] إشارات القرآن إلى القياس
وقد أرشد الله تعالى عباده إليه في غير موضع من كتابه ، فقاس النشأة الثانية على النشأة الأولى في الإمكان ، وجعل النشأة الأولى أصلا والثانية فرعا عليها ; وقاس حياة الأموات بعد الموت على حياة الأرض بعد موتها بالنبات ، وقاس الخلق الجديد الذي أنكره أعداؤه على خلق السموات والأرض ، وجعله من قياس الأولى كما جعل قياس النشأة الثانية على الأولى من قياس الأولى ; وقاس الحياة بعد الموت على اليقظة بعد النوم ، وضرب الأمثال ، وصرفها في الأنواع المختلفة ، وكلها أقيسة عقلية ينبه بها عباده على أن حكم الشيء حكم مثله ، فإن الأمثال كلها قياسات يعلم منها حكم الممثل من الممثل به ، وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلا تتضمن تشبيه الشيء بنظيره والتسوية بينهما في الحكم .
وقال تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } فالقياس في ضرب الأمثال من خاصة العقل ، وقد ركز الله فطر الناس وعقولهم على التسوية بين المتماثلين وإنكار التفريق بينهما ، والفرق بين المختلفين وإنكار الجمع بينهما .
قالوا : ومدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين ; فإنه إما استدلال بمعين على معين أو بمعين على عام ، أو بعام على معين ، أو بعام على عام ; فهذه الأربعة هي مجامع [ ص: 102 ] ضروب الاستدلال
فالاستدلال بالمعين على المعين هو الاستدلال بالملزوم على لازمه ، فكل ملزوم دليل على لازمه ، فإن كان التلازم من الجانبين كان كل منهما دليلا على الآخر ومدلولا له ، وهذا النوع ثلاثة أقسام :
أحدها : الاستدلال بالمؤثر على الأثر .
والثاني : الاستدلال بالأثر على المؤثر .
والثالث : الاستدلال بأحد الأثرين على الآخر .
فالأول كالاستدلال بالنار على الحريق ، والثاني كالاستدلال بالحريق على النار ، والثالث كالاستدلال بالحريق على الدخان ، ومدار ذلك كله على التلازم ، فالتسوية بين المتماثلين هو الاستدلال بثبوت أحد الأثرين على الآخر ، وقياس الفرق هو الاستدلال بانتفاء أحد الأثرين على انتفاء الآخر ، أو بانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه ، فلو جاز التفريق بين المتماثلين لانسدت طرق الاستدلال وغلقت أبوابه .
قالوا : وأما الاستدلال بالمعين على العام فلا يتم إلا بالتسوية بين المتماثلين ; إذ لو جاز الفرق لما كان هذا المعين دليلا على الأمر العام المشترك بين الأفراد ، ومن هذا أدلة القرآن بتعذيب المعينين الذين عذبهم على تكذيب رسله وعصيان أمره على أن هذا الحكم عام شامل على من سلك سبيلهم واتصف بصفتهم ، وهو سبحانه قد نبه عباده على نفس هذا الاستدلال ، وتعدية هذا الخصوص إلى العموم ، كما قال تعالى عقيب إخباره عن عقوبات الأمم المكذبة لرسلهم وما حل بهم { أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر } فهذا محض ، وإلا فلو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية ، ولا تمت الحجة ، ومثل هذا قوله تعالى عقيب إخباره عن عقوبة تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة قوم عاد حين رأوا العارض في السماء فقالوا : { هذا عارض ممطرنا } فقال تعالى : { بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين } ثم قال : { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لكم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون }
فتأمل قوله : { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } كيف تجد المعنى أن حكمكم كحكمهم ، وأنا إذا كنا قد أهلكناهم بمعصية رسلنا ولم يدفع عنهم ما مكنوا فيه من أسباب العيش فأنتم كذلك تسوية بين المتماثلين ، وأن هذا محض عدل الله بين عباده .
ومن ذلك قوله تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها } فأخبر أن حكم الشيء حكم مثله [ ص: 103 ] وكذلك كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالسير في الأرض ، سواء كان السير الحسي على الأقدام والدواب أو السير المعنوي بالتفكر والاعتبار أو كان اللفظ يعمهما وهو الصواب ، فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يحل بالمخاطبين ما حل بأولئك ، ولهذا أمر سبحانه أولي الأبصار بالاعتبار بما حل بالمكذبين ، ولولا أن حتى تعبر العقول منه إليه لما حصل الاعتبار ، وقد نفى الله سبحانه عن حكمه وحكمته حكم النظير حكم نظيره فقال تعالى : { التسوية بين المختلفين في الحكم أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون } فأخبر أن هذا حكم باطل في الفطر والعقول ، لا تليق نسبته إليه سبحانه ، وقال تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } وقال تعالى : { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } أفلا تراه كيف ذكر العقول ونبه الفطر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره ، وعدم التسوية بين الشيء ومخالفه في الحكم ؟ وكل هذا من الميزان الذي أنزله الله مع كتابه وجعله قرينه ووزيره فقال تعالى : { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } وقال : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } وقال تعالى : { الرحمن علم القرآن } فهذا الكتاب ، ثم قال : { والسماء رفعها ووضع الميزان } والميزان يراد به العدل والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده ; والقياس الصحيح هو الميزان ; فالأولى تسميته بالاسم الذي سماه الله به ، فإنه يدل على العدل ، وهو اسم مدح واجب على كل واحد في كل حال بحسب الإمكان ، بخلاف اسم القياس فإنه ينقسم إلى حق وباطل ، وممدوح ومذموم ، ولهذا لم يجئ في القرآن مدحه ولا ذمه ، ولا الأمر به ولا النهي عنه ، فإنه مورد تقسيم إلى صحيح وفاسد .
والصحيح هو الميزان الذي أنزله مع كتابه .
والفاسد ما يضاده كقياس الذين قاسوا على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية ، وقياس الذين قاسوا الميتة على المذكى في جواز أكلها بجامع ما يشتركان من إزهاق الروح هذا بسبب من الآدميين وهذا بفعل الله ، ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس وأنه ليس من الدين ، وتجد في كلامهم استعماله والاستدلال به ، وهذا حق وهذا حق ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى .