فصل [ كل فرقة سدت بابا من الحق ]
وكل فرقة من هذه الفرق الثلاث سدوا على أنفسهم طريقا من طرق الحق ، فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحتمله ، فنفات القياس لما سدوا على نفوسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحكم والمصالح وهو من الميزان والقسط الذي أنزله الله احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب ، فحملوهما فوق الحاجة ووسعوهما أكثر مما يسعانه ، فحيث فهموا من النص حكما أثبتوه ولم يبالوا بما وراءه ، وحيث لم يفهموا منه نفوه ، وحملوا الاستصحاب ، وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها ، والمحافظة عليها ، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد ، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة ، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له ، وأخذهم بقياس وتركهم ما هو أولى منه .
ولكن : أخطئوا من أربعة أوجه
أحدها : رد القياس الصحيح ، ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ ، ولا يتوقف عاقل في أن { عبد الله حمارا على كثرة شربه للخمر : لا تلعنه ، فإنه يحب الله ورسوله } بمنزلة قوله : لا تلعنوا كل من يحب الله ورسوله ، وفي أن قوله : { قول النبي صلى الله عليه وسلم لما لعن } بمنزلة قوله : ينهيانكم عن كل رجس ، وفي أن قوله تعالى : { إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر [ ص: 255 ] فإنها رجس إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس } نهى عن كل رجس ، وفي أن قوله في الهر : { } بمنزلة قوله : كل ما هو من الطوافين عليكم والطوافات فإنه ليس بنجس ، ولا يستريب أحد في أن من قال لغيره " لا تأكل من هذا الطعام فإنه مسموم " نهي له عن كل طعام كذلك ، وإذا قال : " لا تشرب هذا الشراب فإنه مسكر " نهي له عن كل مسكر ، و " لا تتزوج هذه المرأة فإنها فاجرة " وأمثال ذلك . ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات
الخطأ الثاني : تقصيرهم في فهم النصوص ، فكم من حكم دل عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه ، وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ ، دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين ، فلم يفهموا من قوله : { فلا تقل لهما أف } ضربا ولا سبا ولا إهانة غير لفظة أف ، فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان .