مسألة : نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس
لا يجوز جليا كان أو خفيا ، هذا ما قطع به الجمهور إلا شذوذا منهم قالوا : ما جاز التخصيص به جاز النسخ به . وهو منقوض بدليل العقل وبالإجماع وبخبر الواحد ، فالتخصيص بجميع ذلك جائز دون النسخ . نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس المعلوم بالظن والاجتهاد على اختلاف مراتبه
ثم كيف يتساويان والتخصيص بيان والنسخ والبيان تقرير والرفع إبطال ؟ وقال بعض أصحاب : يجوز النسخ بالقياس الجلي ونحن نقول لفظ الجلي مبهم ، فإن أرادوا المقطوع به فهو صحيح وأما المظنون فلا . وما [ ص: 102 ] يتوهم القطع به على ثلاث مراتب : الشافعي
الأولى : ما يجري مجرى النص وأوضح منه ، كقوله تعالى : { فلا تقل لهما أف } فإن تحريم الضرب مدرك منه قطعا ، فلو كان ورد نص بإباحة الضرب لكان هذا ناسخا لأنه أظهر من المنطوق به .
وفي درجته قوله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } الآية في أن ما هو فوق الذرة كذلك . وكذلك قوله تعالى : { وورثه أبواه فلأمه الثلث } في أن للأب الثلثين .
الرتبة الثانية : لو ورد نص بأن العتق لا يسري في الأمة ثم ورد قوله صلى الله عليه وسلم { } لقضينا بسراية عتق الأمة قياسا على العبد لأنه مقطوع به ، إذ علم قطعا قصد الشارع إلى المملوك لكونه مملوكا . من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي
الرتبة الثالثة : أن يرد النص مثلا بإباحة النبيذ ، ثم يقول الشارع : حرمت الخمر لشدتها ، فينسخ إباحة النبيذ بقياسه على الخمر إن تعبدنا بالقياس وقال قوم : وإن لم نتعبد بالقياس نسخنا أيضا إذ لا فرق بين قوله " حرمت كل منتبذ " وبين قوله " حرمت الخمر لشدتها " ، ولذلك أقر بالعلة المنصوصة وإن كان منكرا لأصل القياس . النظام
ولنتبين أنه إن لم نتعبد بالقياس ، فقوله : حرمت الخمر عليكم لشدتها ، ليس قاطعا في تحريم النبيذ ، بل يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة كما تكون العلة في الرجم زنا المحصن ، خاصة والمقصود أن القاطع لا يرفع بالظن بل بالقاطع . فإن قيل استحالة رفعه بالمظنون عقلي أو سمعي ؟ قلنا الصحيح أنه سمعي ، ولا يستحيل عقلا أن يقال : تعبدناكم بنسخ النص بالقياس على نص آخر ، نعم يستحيل أن نتعبد بنسخ النص بقياس مستنبط من عين ذلك النص لأن ذلك يؤدي إلى أن يصير هو مناقضا لنفسه فيكون واجب العمل به وساقط العمل به .
فإن قيل : فما الدليل على امتناعه سمعا ؟ قلنا : يدل عليه الإجماع على بطلان كل قياس مخالف للنص ، وقول رضي الله عنه : " أجتهد رأيي " بعد فقد النص وتزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم له ، وإجماع الصحابة على ترك القياس بأخبار الآحاد ، فكيف بالنص القاطع المتواتر ؟ واشتهار قولهم عند سماع خبر الواحد : " لولا هذا لقضينا برأينا " ولأن دلالة النص قاطع في المنصوص ودلالة الأصل على الفرع مظنون فكيف يترك الأقوى بالأضعف ؟ وهذا مستند الصحابة في إجماعهم على ترك القياس بالنص . معاذ
فإن قيل : إذا تناقض قاطعان وأشكل المتأخر فهل يثبت تأخر أحدهما بقول الواحد حتى يكون هو الناسخ ؟ قلنا : يحتمل أن يقال ذلك لأنه إذا ثبت الإحصان بقول اثنين مع أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة دل على أنه لا يحتاط للشرط بما يحتاط به للمشروط . ويحتمل أن يقال : النسخ إذا كان بالتأخر والمنسوخ قاطع فلا يكفي فيه قول الواحد فهذا في محل الاجتهاد ، والأظهر قبوله لأن أحد النصين منسوخ قطعا ، وإنما هذا مطلوب قبوله للتعين .