مسألة : نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن
يجوز نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن
; لأن الكل من عند الله عز وجل ، فما المانع منه ؟ ولم يعتبر التجانس مع أن العقل لا يحيله ، كيف وقد دل السمع على وقوعه ؟ إذ التوجه إلى بيت المقدس ليس في القرآن وهو في السنة وناسخه في القرآن ، وكذلك قوله تعالى : { فالآن باشروهن } نسخ لتحريم المباشرة وليس التحريم في [ ص: 100 ] القرآن ، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكان عاشوراء ثابتا بالسنة وصلاة الخوف وردت في القرآن ناسخة لما ثبت في السنة من جواز تأخيرها إلى انجلاء القتال ، حتى قال عليه السلام يوم الخندق وقد أخر الصلاة : { } لحبسهم له عن الصلاة ، وكذلك قوله تعالى : { حشا الله قبورهم نارا فلا ترجعوهن إلى الكفار } نسخ لما قرره عليه السلام من العهد والصلح .
وأما نسخ القرآن بالسنة فنسخ الوصية للوالدين والأقربين بقوله صلى الله عليه وسلم : { } ; لأن آية الميراث لا تمنع الوصية للوالدين والأقربين ، إذ الجمع ممكن . وكذلك قال صلى الله عليه وسلم : { ألا لا وصية لوارث } . فهو ناسخ لإمساكهن في البيوت . وهذا فيه نظر ; لأنه صلى الله عليه وسلم بين أن آية الميراث نسخت آية الوصية ولم ينسخها هو بنفسه صلى الله عليه وسلم ، وبين أن الله تعالى جعل لهن سبيلا وكان قد وعد به فقال : { قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم أو يجعل الله لهن سبيلا } فإن قيل قال رحمه الله : لا يجوز نسخ السنة بالقرآن كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة ، وهو أجل من أن لا يعرف هذه الوجوه في النسخ ، فكأنه يقول : إنما تلتغي السنة بالسنة إذ يرفع النبي صلى الله عليه وسلم سنته بسنته ويكون هو مبينا لكلام نفسه وللقرآن ولا يكون القرآن مبينا للسنة ، وحيث لا يصادف ذلك فلأنه لم ينقل وإلا فلم يقع النسخ إلا كذلك . الشافعي
قلنا : هذا إن كان في جوازه عقلا ، فلا يخفى أنه يفهم من القرآن وجوب التحول إلى الكعبة وإن كان التوجه إلى بيت المقدس ثابتا بالسنة ، وكذلك عكسه ممكن . وإن كان يقول لم يقع هذا فقد نقلنا وقوعه ، ولا حاجة إلى تقدير سنة خافية مندرسة ; إذ لا ضرورة في هذا التقدير والحكم بأن ذلك لم يقع أصلا تحكم محض . وإن قال : الأكثر كان ذلك فربما لا ينازع فيه .
احتجوا بقوله تعالى { قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي } . فدل أنه لا ينسخ القرآن بالسنة . قلنا : لا خلاف في أنه لا ينسخ من تلقاء نفسه بل بوحي يوحى إليه ، لكن لا يكون بنظم القرآن . وإن جوزنا النسخ بالاجتهاد فالإذن في الاجتهاد يكون من الله عز وجل ، والحقيقة أن الناسخ هو الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
والمقصود أنه ليس من شرطه أن ينسخ حكم القرآن بقرآن ، بل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بوحي ليس بقرآن وكلام الله تعالى واحد هو الناسخ باعتبار ، والمنسوخ باعتبار ، وليس له كلامان أحدهما قرآن والآخر ليس بقرآن ، وإنما الاختلاف في العبارات فربما دل كلامه بلفظ منظوم يأمرنا بتلاوته فيسمى قرآنا وربما دل بغير لفظ متلو فيسمى سنة ، والكل مسموع من الرسول عليه السلام والناسخ هو الله تعالى في كل حال على أنهم طالبوه بقرآن مثل هذا القرآن فقال لا أقدر عليه من تلقاء نفسي وما طالبوه بحكم غير ذلك ، فأين هذا من نسخ القرآن بالسنة وامتناعه ؟ احتجوا بقوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } وبين أن الآية لا تنسخ إلا بمثلها أو بخير منها فالسنة لا تكون مثلها .
ثم تمدح وقال : { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } بين أنه لا يقدر عليه غيره . قلنا : قد حققنا أن الناسخ هو [ ص: 101 ] الله تعالى وأنه المظهر له على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم المفهم إيانا بواسطته نسخ كتابه ، ولا يقدر عليه غيره .
ثم لو نسخ الله تعالى آية على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ثم أتى بآية أخرى مثلها كان قد حقق وعده ، فلم يشترط أن تكون الآية الأخرى هي الناسخة للأولى . ثم نقول : ليس المراد الإتيان بقرآن آخر خير منها ; لأن القرآن لا يوصف بكون بعضه خيرا من البعض ، كيفما قدر قديما أو مخلوقا ، بل معناه أن يأتي بعمل خير من ذلك العمل لكونه أخف منه أو لكونه أجزل ثوابا