الفصل الثالث : في مسائل تتشعب عن النظر في حقيقة النسخ
وهي ست مسائل . مسألة : يجوز عندنا خلافا نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال للمعتزلة .
وصورته أن يقول الشارع في رمضان حجوا في هذه السنة ثم يقول قبل يوم عرفة لا تحجوا فقد نسخت عنكم الأمر . أو يقول : اذبح ولدك : فيبادر إلى إحضار أسبابه ، فيقول قبل ذبحه : لا تذبح فقد نسخت عنك الأمر ، لأن النسخ عندنا رفع للأمر أي لحكم الأمر ومدلوله وليس بيانا لخروج المنسوخ عن لفظ الأمر بخلاف التخصيص ، فلو قال : صلوا أبدا ، فيجوز أن ينسخ بعد سنة وجوب الصلاة في المستقبل لا بمعنى أنه لم يقصد باللفظ الأول الدلالة على جميع الأزمان ، ولكن بمعنى قطع حكم اللفظ بعد دوامه ، إذ كان دوامه مشروطا بعدم النسخ ، فكل أمر مضمن بشرط أن لا ينسخ ، فكأنه يقول : صلوا أبدا ما لم أنهكم ولم أنسخ عنكم أمري .
وإذا كان كذلك عقل نسخ الحج قبل عرفة ونسخ الذبح قبل فعله ; لأن الأمر قبل التمكن حاصل وإن كان أمرا بشرط التمكن ; لأن الأمر بالشرط ثابت ، ولذلك يعلم المأمور كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال . ولما لم تفهم المعتزلة هذا أنكروا ثبوت الأمر بالشرط كما سيأتي فساد مذهبهم في كتاب الأوامر . وأقرب دليل على فساده أن المصلي ينوي الفرض وامتثال الأمر في ابتداء الصلاة ، وربما يموت في أثنائها وقبل تمام التمكن ، ولو مات قبل لم يتبين أنه لم يكن مأمورا بل نقول كان مأمورا بأمر مقيد بشرط والأمر المقيد بالشرط ثابت في الحال وجد الشرط أو لم يوجد وهم يقولون : إذا لم يوجد الشرط علمنا انتفاء الأمر من أصله وأنا كنا نتوهم وجوبه .
فبان أنه لم يكن . فهذه المسألة فرع لتلك المسألة ، ولذلك أحالت المعتزلة النسخ قبل التمكن وقالوا أيضا : إنه يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد في وقت واحد على وجه واحد مأمورا منهيا حسنا قبيحا مكروها مرادا مصلحة مفسدة ، وجميع ما يتعلق بالحسن والقبح والصلاح والفساد قد أبطلناه .