الركن الثالث : المحكوم عليه
وهو المكلف ، وشرطه أن يكون عاقلا يفهم الخطاب ، فلا يصح خطاب الجماد والبهيمة بل خطاب المجنون والصبي الذي لا يميز ; لأن التكليف مقتضاه الطاعة والامتثال ، ولا يمكن ذلك إلا بقصد الامتثال ، وشرط القصد العلم بالمقصود والفهم للتكليف ، فكل خطاب متضمن للأمر بالفهم ، فمن لا يفهم كيف يقال له افهم ؟ ومن لا يسمع الصوت كالجماد كيف يكلم ؟ وإن سمع الصوت كالبهيمة ولكنه لا يفهم ، فهو كمن لا يسمع . ومن يسمع وقد يفهم فهما ما ، لكنه لا يعقل ولا يثبت كالمجنون وغير المميز فمخاطبته ممكنة ، لكن اقتضاء الامتثال منه مع أنه لا يصح منه قصد صحيح غير ممكن فإن قيل فقد وجبت الزكاة والغرامات والنفقات على الصبيان .
قلنا : ليس ذلك من التكليف في شيء ، إذ يستحيل التكليف بفعل الغير ، وتجب الدية على العاقلة لا بمعنى أنهم مكلفون بفعل الغير ولكن بمعنى أن فعل الغير سبب لثبوت الغرم في ذمتهم فكذلك الإتلاف . وملك النصاب سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمة الصبيان ، بمعنى أنه سبب لخطاب الولي بالأداء في الحال وسبب لخطاب الصبي بعد البلوغ ، وذلك غير محال إنما المحال أن يقال لمن لا يفهم " افهم " وأن يخاطب من لا يسمع ولا يعقل .
وأما أهلية ثبوت الأحكام في الذمة فمستفاد من الإنسانية التي بها يستعد لقبول قوة العقل الذي به فهم التكليف في ثاني الحال ، حتى إن البهيمة لما لم تكن لها أهلية فهم الخطاب بالفعل ولا بالقوة لم تتهيأ لإضافة الحكم إلى ذمتها . والشرط لا بد أن يكون حاصلا أو ممكنا أن يحصل على القرب ، فيقال : إنه موجود بالقوة ، كما أن شرط المالكية الإنسانية وشرط الإنسانية الحياة .
والنطفة في الرحم قد يثبت لها الملك بالإرث والوصية والحياة غير موجودة بالفعل ولكنها بالقوة إذ مصيرها إلى الحياة ; فكذلك الصبي مصيره إلى العقل فصلح لإضافة الحكم إلى ذمته ولم يصلح للتكليف في الحال . فإن قيل : فالصبي المميز مأمور بالصلاة .
قلنا : مأمور من جهة الولي والولي مأمور من جهة الله تعالى ، إذ قال عليه السلام { } وذلك ; لأنه يفهم خطاب الولي ويخاف ضربه فصار أهلا له ، ولا يفهم خطاب الشارع إذ لا يعرف الشارع ولا يخاف عقابه إذ لا يفهم الآخرة . فإن قيل : فإذا قارب البلوغ عقل ولم يكلفه الشرع ، أفيدل ذلك على نقصان عقله ؟ مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر قلنا : قال رحمه الله : ذلك يدل عليه . القاضي أبو بكر
وليس يتجه ذلك ; لأن انفصال النطفة منه لا يزيده عقلا لكن حط الخطاب عنه تخفيفا ; لأن العقل خفي ، وإنما يظهر فيه على التدريج فلا يمكن الوقوف بغتة على الحد الذي يفهم به خطاب الشرع ويعرف المرسل والرسول والآخرة ، فنصب الشرع له علامة ظاهرة .