مسألة : الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده
اختلفوا في أن ؟ الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده
وللمسألة طرفان أحدهما : يتعلق بالصيغة ولا يستقيم ذلك عند من لا يرى للأمر صيغة ، ومن رأى ذلك فلا شك في أن قوله " قم " غير قوله " لا تقعد " فإنهما صورتان مختلفتان ، فيجب عليهم الرد إلى المعنى ، وهو أن قوله " قم " له مفهومان أحدهما طلب القيام ، والآخر : ترك القعود ، فهو دال على المعنيين ، فالمعنيان المفهومان منه متحدان أو أحدهما غير الآخر فيجب الرد إلى المعنى .
والطرف الثاني : البحث عن المعنى القائم بالنفس ، وهو أن طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود أم لا ، وهذا لا يمكن فرضه في حق الله تعالى فإن كلامه واحد هو أمر ونهي ووعد ووعيد فلا تتطرق الغيرية إليه .
فليفرض في المخلوق ، وهو أن طلبه للحركة هل هو بعينه كراهة للسكون وطلب لتركه ؟ وقد أطلق المعتزلة أنه ليس الأمر بالشيء نهيا عن ضده . واستدل رحمه الله عليهم بأن قال : لا خلاف أن الآمر بالشيء ناه عن ضده ، فإذا لم يقم دليل على اقتران شيء آخر بأمره دل على أنه ناه بما هو آمر به قال : وبهذا علمنا أن السكون عين ترك الحركة وطلب السكون عين طلب ترك الحركة ، وشغل الجوهر بحيز انتقل إليه عين تفريغه للحيز المنتقل عنه ، والقرب من المغرب عين البعد من المشرق ، فهل فعل واحد بالإضافة إلى المشرق بعد وبالإضافة إلى المغرب قرب ، وكون واحد بالإضافة إلى حيز شغل وبالإضافة إلى الآخر تفريغ ، وكذلك ههنا طلب واحد بالإضافة إلى السكون أمر وإلى الحركة نهي قال : والدليل على أنه ليس معه غيره ، أن ذلك الغير لا يخلو من أن يكون ضدا له أو مثلا أو خلافا ، ومحال كونه ضدا ; لأنهما لا يجتمعان وقد اجتمعا ، ومحال كونه مثلا لتضاد المثلين ، ومحال كونه خلافا إذ لو كان خلافا لجاز وجود أحدهما دون الآخر ، إما هذا دون ذاك أو ذاك دون هذا ; كإرادة الشيء مع العلم به لما اختلفا تصور وجود العلم دون الإرادة وإن لم يتصور وجود الإرادة دون العلم ، بل كان يتصور وجوده مع ضد الآخر ، وضد النهي عن الحركة الأمر بها ، فلنجز أن يكون آمرا بالسكون والحركة معا فيقول : تحرك واسكن وقم واقعد . القاضي أبو بكر
وهذا الذي ذكره دليل على المعتزلة حيث منعوا تكليف المحال وإلا فمن يجوز ذلك يجوز أن يقول : اجمع بين القيام والقعود . ولا نسلم أيضا أن ضرورة كل آمر بالشيء أن يكون ناهيا عن ضده ، بل يجوز أن يكون آمرا بضده فضلا عن أن يكون لا آمرا [ ص: 66 ] ولا ناهيا وعلى الجملة فالذي صح عندنا بالبحث النظري الكلامي تفريعا على إثبات كلام النفس ، أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده ، لا بمعنى أنه عينه ولا بمعنى أنه يتضمنه ولا بمعنى أنه يلازمه ; بل يتصور أن يأمر بالشيء من هو ذاهل عن أضداده ، فكيف يقوم بذاته قول متعلق بما هو ذاهل عنه ؟ وكذلك ينهى عن الشيء ولا يخطر بباله أضداده حتى يكون آمرا بأحد أضداده لا بعينه .
فإن أمر ولم يكن ذاهلا عن أضداد المأمور به فلا يقوم بذاته زجر عن أضداده مقصود إلا من حيث يعلم أنه لا يمكن فعل أضداد المأمور به فلا يقوم بذاته زجر عن أضداده مقصود إلا من حيث ، يعلم أنه لا يمكن فعل المأمور به إلا بترك أضداده ، فيكون ترك أضداد المأمور ذريعة بحكم ضرورة الوجود لا بحكم ارتباط الطلب به ، حتى لو تصور على الاستحالة الجمع بين القيام والقعود إذا قيل له " قم " فجمع كان ممتثلا ; لأنه لم يؤمر إلا بإيجاد القيام وقد أوجده .
ومن ذهب إلى هذا المذهب لزمه فضائح من الكعبي المعتزلة ، حيث أنكر المباح وقال : ما من مباح إلا وهو ترك لحرام فهو واجب . ويلزمه وصف الصلاة بأنها حرام إذا ترك بها الزكاة الواجبة على الفور . وإن فرق مفرق فقال : النهي ليس أمرا بالضد والأمر نهي عن الضد ، لم يجد إليه سبيلا إلا التحكم المحض . فإن قيل فقد قلتم إن ما لا يتوصل إلى الواجب ، إلا به فهو واجب ، ولا يتوصل إلى فعل الشيء إلا بترك ضده فليكن واجبا قلنا : ونحن نقول ذلك واجب ، وإنما الخلاف في إيجابه هل هو عين إيجاب المأمور به أو غيره ؟ فإذا قيل : " اغسل الوجه " فليس عين هذا إيجابا لغسل جزء من الرأس ولا قوله : " صم النهار " إيجابا بعينه لإمساك جزء من الليل ، ولذلك لا يجب أن ينوي إلا صوم النهار ، ولكن ذلك يجب بدلالة العقل على وجوبه من حيث هو ذريعة إلى المأمور لا أنه عين ذلك الإيجاب ; فلا منافاة بين الكلامين .