الفصل الثالث : في وجه لزوم النتيجة من المقدمات
. وجه لزوم النتيجة من المقدمات
وهو الذي يعبر عنه بوجه الدليل ، ويلتبس الأمر فيه على الضعفاء فلا يتحققون أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره ، فنقول كل مفردين جمعتهما القوة المفكرة ونسبت أحدهما إلى الآخر بنفي أو إثبات وعرضته على العقل لم يخل العقل فيه من أحد أمرين : إما أن يصدق به أو يمتنع من التصديق ، فإن صدق فهو الأولي المعلوم بغير واسطة ويقال : إنه معلوم بغير نظر ودليل وحيلة وتأمل وكل ذلك بمعنى واحد ، وإن لم يصدق فلا مطمع في التصديق إلا بواسطة وتلك الواسطة هي التي تنسب إلى الحكم فيكون خبرا عنها وتنسب إلى المحكوم عليه فتجعل [ ص: 42 ] خبرا عنه فيصدق فيلزم من ذلك بالضرورة التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه .
بيانه أنا إذا قلنا للعقل احكم على النبيذ بالحرام فيقول : لا أدري ولم يصدق به ، فعلمنا أنه ليس يلتقي في الذهن طرفا هذه القضية وهو الحرام والنبيذ ، فلا بد أن يطلب واسطة ربما صدق العقل بوجودها في النبيذ وصدق بوجود وصف الحرام لتلك الواسطة فيلزمه التصديق بالمطلوب . فيقال : هل النبيذ مسكر ؟ فيقول : نعم ، إذا كان قد علم ذلك بالتجربة . فيقال : وهل المسكر حرام ؟ فيقول : نعم ، إذا كان قد حصل ذلك بالسماع وهو المدرك بالسمع . قلنا : فإن صدقت بهاتين المقدمتين لزمك التصديق بالثالث لا محالة وهو أن النبيذ حرام بالضرورة ، فيلزمه أن يصدق بذلك ويذعن للتصديق به .
فإن قلت : فهذه القضية ليست خارجة عن القضيتين وليست زائدة عليهما فاعلم أن ما توهمت حق من وجه وغلط من وجه ، أما الغلط فهو أن هذه قضية ثالثة لأن قولك : النبيذ حرام غير قولك : النبيذ مسكر وغير قولك : المسكر حرام ، بل هذه ثلاث مقدمات مختلفات وليس فيها تكرير أصلا بل النتيجة اللازمة غير المقدمات الملتزمة .
وأما وجه كونه حقا فهو أن قولك المسكر حرام شمل بعمومه النبيذ الذي هو أحد المسكرات ، فقولك النبيذ حرام ينطوي فيه لكن بالقوة لا بالفعل ، وقد يحضر العام في الذهن ولا يحضر الخاص ، فمن قال الجسم متحيز ربما لا يخطر بباله ذلك الوقت أن الثعلب متحيز بل ربما لا يخطر بباله ذلك الثعلب فضلا عن أن يخطر بباله أنه متحيز ، فإذا النتيجة موجودة في إحدى المقدمتين بالقوة القريبة والموجود بالقوة القريبة لا يظن أنه موجود بالفعل . فاعلم أن هذه النتيجة لا تخرج من القوة إلى الفعل بمجرد العلم بالمقدمتين ما لم تحضر المقدمتين في الذهن وتخطر ببالك وجه وجود النتيجة في المقدمتين بالقوة ، فإذا تأملت ذلك صارت النتيجة بالفعل ، إذ لا يبعد أن ينظر الناظر إلى بغلة منتفخة البطن فيتوهم أنها حامل ، فيقال له : هل تعلم أن البغلة عاقر لا تحمل ؟ فيقول : نعم ، فيقال : وهل تعلم أن هذه بغلة ؟ فيقول : نعم ، فيقال : كيف توهمت أنها حامل ؟ فيتعجب من توهم نفسه مع علمه بالمقدمتين ، إذ نظمها " أن كل بغلة عاقر وهذه بغلة فهي إذا عاقر .
والانتفاخ له أسباب ، فإذا انتفاخها من سبب آخر . ولما كان السبب الخاص لحصول النتيجة في الذهن التفطن لوجود النتيجة بالقوة في المقدمة أشكل على الضعفاء فلم يعرفوا أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره ، فالحق أن المطلوب هو المدلول المستنتج وأنه غير التفطن لوجوده في المقدمتين بالقوة ، ولكن هذا التفطن هو سبب حصوله على سبيل التولد عند المعتزلة وعلى سبيل استعداد القلب لحضور المقدمتين مع التفطن لفيضان النتيجة من عند واهب الصور المعقولة الذي هو العقل الفعال عند الفلاسفة وعلى سبيل تضمن المقدمات للنتيجة بطريق اللزوم الذي لا بد منه عند أكثر أصحابنا المخالفين للتولد الذي ذكره المعتزلة وعلى سبيل حصوله بقدرة الله تعالى عقيب حضور المقدمتين في الذهن والتفطن لوجه تضمنهما له بطريق إجراء الله تعالى العادة على وجه يتصور خرقها بأن لا يخلق عقيب تمام النظر عند بعض أصحابنا .
ثم ذلك من غير نسبة له إلى القدرة الحادثة عند بعضهم بل بحيث لا تتعلق به قدرة العبد ، وإنما قدرته على إحضار المقدمتين ومطالعة [ ص: 43 ] وجه تضمن المقدمتين للنتيجة على معنى وجودها فيهما بالقوة فقط ، أما صيرورة النتيجة بالفعل فلا تتعلق بها القدرة ، وعند بعضهم هو كسب مقدور .
والرأي الحق في ذلك لا يليق بما نحن فيه ، والمقصود كشف الغطاء عن النظر وأن وجه الدليل ما هو والمدلول ما هو والنظر الصحيح ما هو والنظر الفاسد ما هو . وترى الكتب مشحونات بتطويلات في هذه الألفاظ من غير شفاء ، وإنما الكشف يحصل بالطريق الذي سلكناه فقط ، فلا ينبغي أن يكون شغفك بالكلام المعتاد المشهور بل بالكلام المفيد الموضح وإن خالف المعتاد مغالطة من منكري النظر : وهو أن يقول : ما تطلب بالنظر هو معلوم لك أم لا ؟ فإن علمت فكيف تطلب وأنت واجد ؟ وإن جهلته فإذا وجدته فبم تعرف أنه مطلوبك ؟ وكيف يطلب العبد الآبق من لا يعرفه ؟ فإنه لو وجده لم يعرف أنه مطلوبه . فنقول : أخطأت في نظم شبهتك ، فإن تقسيمك ليس بحاصر ; إذ قلت تعرفه أو لا تعرفه بل ههنا قسم ثالث وهو أني أعرفه من وجه وأعلمه من وجه وأجهله من وجه ; وأعني الآن بالمعرفة غير العلم ، فإني أفهم مفردات أجزاء المطلوب بطريق المعرفة والتصور وأعلم جملة النتيجة المطلوبة بالقوة لا بالفعل ، أي في قوتي أن أقبل التصديق بها بالفعل وأجهلها من وجه أي لا أعلمها بالفعل ، ولو كنت أعلمها بالفعل لما طلبتها ، ولو لم أعلمها بالقوة لما طمعت في أن أعلمها إذ ما ليس في قوتي علمه يستحيل حصوله كاجتماع الضدين ، ولولا أني أفهمه بالمعرفة والتصور لأجزائه المنفردة لما كنت أعلم الظفر بمطلوبي إذا وجدته ، وهو كالعبد الآبق فإني أعرف ذاته بالتصور وإنما أطلب مكانه وأنه في البيت أم لا ، وكونه في البيت أفهمه بالمعرفة والتصور ، أي أفهم البيت مفردا والكون مفردا وأعلمه بالقوة أي في قوتي أن أصدق بكونه في البيت وأطلب حصوله بالفعل من جهة حاسة البصر ، فإذا رأيته في البيت صدقت بكونه في البيت ; فكذلك طلبي لكون العالم حادثا إذا وجدته .