القسم الثاني :
، ونرجع إلى بقية الأقسام الأربعة نوردها من غير تفصيل لتعلق بعضها بالبعض ، ويرجع ذلك إلى قريب من عشرين وجها . ما لا يرجع إلى الأصل
الأول : وهذا قد أورد في الترجيح وهو ضعيف ; لأن الظن ينمحي في مقابلة القاطع فلا يبقى معه حتى يحتاج إلى ترجيح ، إذ لو بقي معه لتطرق شكنا إليه ويخرج عن [ ص: 380 ] كونه معلوما ، وقد بينا أنه لا ترجيح لمعلوم على معلوم ولا لمظنون على مظنون . أن تثبت إحدى العلتين بنص قاطع
الثاني : ، وهذا يصح على مذهب من لا يرى ذلك إجماعا أما من اعتقده إجماعا صار عنده قاطعا ويسقط الظن في مقابلته . أن تعتضد إحدى العلتين بموافقة قول صحابي انتشر وسكت عنه الآخرون
الثالث : فقد قال قوم : قوله حجة فإن لم يكن حجة فلا يبعد أن يقوى القياس به في ظن مجتهد ، إذ يقول إن كان ما قاله عن توقيف فهو أولى وإن كان قال ما قاله عن ظن وقياس فهو أولى بفهم مقاصد الشرع منا . ويجوز أن لا يترجح عند مجتهد . أن تعتضد بقول صحابي وحده ولم ينتشر
الرابع : أو بخبر مردود عنده ، لكن قال به بعض العلماء . فهذا مرجح بشرط أن لا يكون قاطعا ببطلان مذهب القائلين به ، بل يرى ذلك في محل الاجتهاد . أن يترجح بموافقته بخبر مرسل
الخامس : أعني لجنسها لا لعينها ، فإنه إن شهدت لعينها كان قاطعا رافعا للظنون إلى النيات وشهادة الكفارات لاستواء البدل والمبدل في النية ، فهذا أيضا يصلح للترجيح عند من غلب على ظنه ذلك أن تشهد الأصول بمثل حكم إحدى العلتين
السادس : ، فإن كانا معلومين أو كان أحدهما متيقنا والآخر مظنونا فإن من أوصاف العلة ما يتيقن ككون البر قوتا وكون الخمر مسكرا ومنه ما يظن ككون الكلب نجسا إذا عللنا منع بيعه بنجاسته وككون التراب مبطلا رائحة النجاسة إذا ألقي في الماء الكثير المتغير لا ساترا أن يكون نفس وجود العلة ضروريا في أحدهما نظريا في الآخر
كذلك علة مركبة من وصفين : أحدهما : ضروري والآخر : نظري أو أحدهما معلوم والآخر مظنون إذا عارضها ما هو ضروري الوصفين أو معلوم الوصفين ; لأن ما علم مجموع وصفيه أولى مما تطرق الشك أو الظن إلى أحد وصفيه ; لأن الحكم لا محالة يتبع وجود نفس العلة فما قوي العلم أو الظن بوجود العلة قوي الظن بحكم العلة .
السابع : ، فإذا كان إحدى العلتين حكما ككونه حراما أو نجسا ، والأخرى حسيا ككونه قوتا ومسكرا زعموا أن رد الحكم إلى الحكم أولى ، حتى إن تعليل الحكم بالحرية والرق أولى من تعليله بالتمييز والعقل وتعليله بالتكليف أولى من تعليله بالإنسانية ، وهذا من الترجيحات الضعيفة . الترجيح بما يعود إلى التعلق بالعلم بالعلة
الثامن : ، كما لو جعل الزنا والسرقة علة للحد والقطع كان أولى من جعل أخذ مال الغير على سبيل الخفية علة ومن جعل إيلاج الفرج في الفرج علة حتى يتعدى إلى النباش واللائط ; لأن تلك العلة استندت إلى الاسم الذي ظهر الحكم به ; هذا إذا تساوت العلتان من كل وجه أن تكون إحدى العلتين سببا أو سببا للسبب
أما إذا دل الدليل على أن الحكم غير منوط بالسبب الظاهر بل بمعنى تضمنه فالدليل متبع فيه كما أن القاضي لا يقضي في حالة الغضب لا للغضب ولكن لكونه ممنوعا من استيفاء الفكر فيجري في الحاقن والجائع ، وهو أولى من التعليل بالغضب الذي ينسب الحكم إليه .
التاسع : ، ولا نعني بشدة التأثير قيام الدليل على كونه علة ; لأن الدليل يقوم على المعنى الكائن في نفسه دون الدليل فليكن لكون العلة مؤثرة معنى ، ثم إذا تحقق ذلك في نفسه وفي علم الله تعالى ربما [ ص: 381 ] نصب الله عليه دليلا معرفا أو أمارة معلنة وربما لم ينصب دليلا فإذا قوة الدليل المعرف بكونها علة ليس من شدة التأثير في شيء ، بل فسروا شدة التأثير بوجوه : الترجيح بشدة التأثير
أولها انعكاس العلة مع اطرادها فهي أولى من شدة التي لا تنعكس عند قوم ، إذ دوران الحكم مع عدمها ووجودها نفيا وإثباتا يدل على شدة تأثيرها ، كشدة الخمر إذ يزول الحكم بزوالها .
الثاني : أن تكون العلة مع كونها علة داعية إلى فعل ما هي علة تحريمه ، كالشدة فإنها محرمة وهي داعية إلى الشرب المحرم ; لما فيها من الإطراب والسرور ، فهي مع تأثيرها في الحكم أثرت في تحصيل محل الحكم وهو الشرب .
الثالث : أن تكون علة ذات وصف واحد وعارضها علة ذات أوصاف ، فقال قوم : الوصف الواحد أولى ; لأن الحكم الثابت به المخالف للنفي الأصلي أكثر فكان تأثيره أكثر فروعا فهي أكثر تأثيرا . وقال قوم : ذات أوصاف أولى ; لأن الشريعة حنيفية فالباقي على النفي الأصلي أكثر ولا يبعد أن يغلب على ظن المجتهد شيء من ذلك .
الرابع : أن تكون إحداهما أكثر وقوعا فهي أكثر تأثيرا فتكون أولى ، وهذا بعيد ; لأن تأثير العلة إنما يكون في محل وجودها أما حيث لا وجود لها كيف يطلب تأثيرها .
الخامس : علة يشهد لها أصلان أولى مما يشهد لها أصل واحد عند قوم ، وهذا يظهر إن كان طريق الاستنباط مختلفا وإن كان متساويا فهو ضعيف ولا يبعد أن يقوى ظن مجتهد به وتكون كثرة الأصول ككثرة الرواة للخبر ، مثاله أنا إذا تنازعنا في أن يد السوم لم توجب الضمان ، فقال رحمه الله علته أنه أخذ لغرض نفسه من غير استحقاق وعداه إلى المستعير . الشافعي :
وقال الخصم : بل علته أنه أخذ ليتملك فيشهد في علته رحمه الله يد الغاصب ويد المستعير من الغاصب ، ولا يشهد للشافعي رحمه الله إلا يد الرهن فلا يبعد أن يغلب رجحان علة لأبي حنيفة عند مجتهد ويكون كل أصل كأنه شاهد آخر ، وكذلك الربا إذا علل بالطعم يشهد له الملح أيضا وإن علل بالقوت لم يشهد له ، فلا يبعد أن يكون ذلك من الترجيحات . الشافعي
العاشر من الترجيحات العلة المثبتة للعموم الذي منه الاستنباط فهي أولى من المخصصة . قال الله تعالى : { أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } فبرزت علة تقتضي إخراج المحرم والصغيرة من العموم وبرزت علة أخرى توافق العموم ، فالذي ينفي العموم لمجرده حجة فلا أقل من الترجيح به . وقال قوم : المخصصة أولى ; لأنها عرفت ما لم يعرف العموم فأفادت والعلة المقررة للعموم لم تفد مزيدا فكانت أولى كالمتعدية فإنها أولى من القاصرة عند قوم ، وهذا ضعيف ; لأن المتعدية قررت الملفوظ وألحق به المسكوت وأفادت والقاصرة لم تفد شيئا ، حتى قال قائلون : هي فاسدة ، فتخيل قوم لذلك ترجيح المتعدية ; وليس ذلك بصحيح أيضا ، وأما المخصصة فخالفت موجب العموم فكانت أضعف من التي تخالف .
الحادي عشر على التي هي أقل شبها بأصلها ، وهذا ضعيف عند من لا يرى الشبه في الوصف الذي لا يتعلق الحكم به موجبا للحكم ، ومن رأى ذلك موجبا فغايته أن تكون كعلة أخرى ولا يجب ترجيح علتين على علة واحدة لأن الشيء يترجح بقوته لا بانضمام مثله إليه كما لا يترجح الحكم الثابت بالكتاب والسنة والإجماع على الثابت بأحد هذه الأصول ترجيح العلة بكثرة شبهها بأصلها
ويقرب من هذا قولهم : رد الشيء إلى [ ص: 382 ] جنسه أولى من رده إلى غير جنسه ، حتى يكون قياس الصلاة على الصلاة أولى من قياسها على الصوم والحج ; لأنه أقرب شبها به ; وهذا ليس ببعيد ; لأن اختلاف الأصول يناسب اختلاف الأحكام ، فإذا كان جنس المظنون واحدا كان التفاوت أغلب على الظن ، وعن هذا جعل مجرد الشبه حجة عند قوم .
الثاني عشر عند قوم ; لأن العلة ترد لحكمها فما كانت فائدتها أكثر فهي أولى ، حتى قالوا : ما أوجب الجلد والتغريب أولى مما لا يوجب إلا الجلد وعلى مساقه قالوا : علة تقتضي الوجوب أولى مما تقتضي الندب وما تقتضي الندب أولى مما تقتضي الإباحة ; لأن في الواجب معنى الندب وزيادة . علة أوجبت حكما وزيادة مرجحة على ما لا يوجب الزيادة
الثالث عشر ترجيح المتعدية على القاصرة ، وهو ضعيف عند من لا يفسد القاصرة ; لأن كثرة الفروع بل وجود أصل الفروع لا تبين قوة في ذات العلة ، بل ينقدح أن يقال : القاصرة أوفق للنص فهي أولى .
الرابع عشر ; لأن الناقلة أثبتت حكما شرعيا والمقررة أثبتت شيئا ، وقال قوم : بل المقررة أولى ; لأنها معتضدة بحكم العقل الذي يستقل بالنفي لولا هذه العلة ، ومثاله علة تقتضي الزكاة في الخضراوات وأخرى تنفي الزكاة ، وعلة توجب الربا في الأرز وأخرى تنفي . ترجيح الناقلة عن حكم العقل على المقررة
فإن قيل : فلم صحت العلة المبقية على حكم الأصل ولم تفد شيئا ; لأنها لو لم تكن علة لكنا نبقي الحكم أيضا ؟ قلنا : إن كان الأمر كذلك فلا يصح كمن علل ليدل على أن هبوب الرياح لا يوجب الصوم والوضوء ، بل ينبغي أن يقتضي تفصيلا لا يقتضيه العقل أو تقتضي زيادة شرط أو إطلاقا لا يقتضيه العقل ، كما لو نصب علة الجواز بيع غير القوت فإن تخصيص غير القوت عن القوت مما لا يقتضيه العقل .
الخامس عشر : قال به قوم وهو غير صحيح ; لأن النفي الذي لا يثبت إلا شرعا كالإثبات وإن كان نفيا أصليا يرجع إلى ما قدمناه من الناقلة والمقررة ، وقد قال تقديم العلة المثبتة على النافية : " العلة الدارئة للحد أولى من الموجبة " وهذا يصح بعد ثبوت قوله عليه السلام : { الكرخي } ولا يجري في العبادات والكفارات وما لا يسقط بالشبهات ، بل إذا كان للوجوب وجه ، وللسقوط وجه وتعارض الوجهان كان المحل محل شبهة فيسقط لعموم الخبر لا لترجيح الدارئة على الموجبة ادرءوا الحدود بالشبهات
السادس عشر ترجيح علة هي بطريق الأولى على ما هي ، مثل : كتعليل قبول شهادة التائب وقياسه على ما قبل إقامة حد القذف ، وتعليل وجوب كفارة العمد وقياسه على الخطإ وتعليل صحة النكاح عند فساد التسمية قياسا على ترك التسمية وإن كان ذلك بطريق الأولى فهو أقوى
السابع عشر : ; وهو ضعيف إذ رب لازم لا يكون علة كحمرة الخمر بل كوجود الخمر والبر رجح قوم العلة الملازمة على التي تفارق في بعض الأحوال
الثامن عشر : . رجح قوم علة انتزعت من أصل سلم من المعارضة على علة انتزعت من أصل لم يسلم من المعارضة بمثلها
التاسع عشر : ; لأن الشريعة حنيفية سمحة ورجح آخرون بالضد ; لأن التكليف شاق ثقيل ; فهذه ترجيحات ضعيفة رجح قوم علة توجب حكما أخف ;
: ، كتعليل ترجيح علة توجب في الفرع مثل حكمها على علة توجب في الفرع خلاف حكمها - رحمه الله - في مسألة جنين الأمة يوجب حكما مساويا للأصل في التسوية بين الذكر والأنثى ، وتعليل [ ص: 383 ] الشافعي رضي الله عنه يوجب الفرق بين الذكر والأنثى في الفرع ، وإذ أوجب في الأنثى من الأمة عشر قيمتها وفي الذكر نصف عشر قيمته ، والأصل هو جنين الحرة وفي الذكر والأنثى منه خمسة من الإبل ، والعلة التي تقطع النظر عن الأنوثة والذكورة أولى ; لأنها أوفق للأصل . أبي حنيفة
فهذه وجوه الترجيحات وبعضها ضعيف يفيد الظن لبعض المجتهدين دون بعض ، ويمكن أن يكون وراء هذه الجملة ترجيحات من جنسها . وفيما ذكرناه تنبيه عليها إن شاء الله تعالى . هذا تمام القول في القطب الرابع وبه وقع الفراغ من الأقطاب الأربعة التي عليها مدار أصول الفقه . وبالله التوفيق ، والحمد لله وحده ، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليما .