مسألة : اختلفوا في النبي ، عليه السلام هل يجوز له الحكم بالاجتهاد فيما لا نص فيه ؟
والنظر في الجواز والوقوع ، والمختار جواز تعبده بذلك ; لأنه ليس بمحال في ذاته ولا يفضي إلى محال ومفسدة . فإن قيل : المانع منه أنه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح فكيف يرجم بالظن ؟ قلنا : فإذا استكشف فقيل له حكمنا عليك أن تجتهد وأنت متعبد به ، فهل له أن ينازع الله فيه أو يلزمه أن يعتقد أن صلاحه فيما تعبد به ؟ فإن قيل : قوله نص قاطع يضاد الظن والظن يتطرق إليه احتمال الخطأ فهما متضادان . قلنا : إذا قيل له ظنك علامة الحكم فهو يستيقن الظن والحكم جميعا فلا يحتمل الخطأ وكذلك اجتهاد غيره عندنا ، ويكون كظنه صدق الشهود ; فإنه يكون مصيبا وإن كان الشاهد مزورا في الباطن .
فإن قيل فإن ساواه غيره في كونه مصيبا بكل حال فليجز لغيره أن يخالف قياسه باجتهاد نفسه . قلنا : لو تعبد بذلك لجاز ، ولكن دل الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده كما دل على تحريم مخالفة الأمة كافة ، وكما دل على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم ; لأن صلاح الخلق في اتباع رأي الإمام والحاكم وكافة الأمة فكذلك النبي .
ومن ذهب إلى أن المصيب واحد يرجح اجتهاده لكونه معصوما عن الخطأ دون غيره ، ومنهم من جوز عليه الخطأ ولكن لا يقر عليه . فإن قيل : كيف يجوز ورود التعبد بمخالفة اجتهاده وذلك يناقض الاتباع وينفر عن الانقياد ؟ قلنا : إذا عرفهم على لسانه بأن حكمهم اتباع ظنهم وإن خالف ظن النبي كان اتباعه في امتثال ما رسمه لهم كما في القضاء بالشهود ، فإنه لو قضى النبي بشهادة شخصين لم يعرف فسقهما فشهدا عند حاكم عرف فسقهما لم يقبلهما
وأما التنفير فلا يحصل بل تكون مخالفته فيه كمخالفته في الشفاعة ، وفي تأبير النخل ومصالح الدنيا . فإن قيل : لو قاس فرعا على أصل أفيجوز إيراد القياس على فرعه أم لا ؟ إن قلتم : لا . فمحال لأنه صار منصوصا عليه من جهته ، وإن قلتم : نعم . فكيف يجوز القياس على الفرع ؟ قلنا : يجوز القياس عليه وعلى كل فرع أجمعت الأمة على إلحاقه بأصل لأنه صار أصلا بالإجماع والنص ، فلا ينظر إلى مأخذهم ; وما ألحقه بعض العلماء فقد جوز بعضهم القياس عليه وإن لم توجد علة الأصل .
أما الوقوع فقد قال به قوم وأنكره آخرون وتوقف فيه فريق ثالث وهو الأصح فإنه لم يثبت فيه قاطع . احتج القائلون به بأنه عوتب عليه الصلاة والسلام في أسارى بدر وقيل : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } [ ص: 347 ] وقال النبي عليه السلام { لو نزل عذاب ما نجا منه إلا عمر } لأنه كان قد أشار بالقتل ولو كان قد حكم بالنص لما عوتب .
قلنا : لعله كان مخيرا بالنص في إطلاق الكل أو قتل الكل أو فداء الكل ، فأشار بعض الأصحاب بتعيين الإطلاق على سبيل المنع عن غيره فنزل العتاب مع الذين عينوا لا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن ورد بصيغة الجمع ، والمراد به أولئك خاصة .
واحتجوا بأنه لما قال : { قال لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها إلا الإذخر } فقال صلى الله عليه وسلم : " إلا الإذخر " وقال في الحج : " هو للأبد ولو قلت لعامنا لوجب ، " { العباس ونزل منزلا للحرب فقيل له : إن كان بوحي فسمعا وطاعة وإن كان باجتهاد ورأي فهو منزل مكيدة ، فقال : بل باجتهاد ورأي } فرحل . قلنا : أما الإذخر فلعله كان نزل الوحي بأن لا يستثنى الإذخر إلا عند قول أو كان العباس جبريل عليه السلام حاضرا فأشار عليه بإجابة وأما الحج فمعناه : لو قلت لعامنا لما قلته إلا عن وحي ولوجب لا محالة . العباس
وأما المنزل فذلك اجتهاد في مصالح الدنيا ، وذلك جائز بلا خلاف إنما الخلاف في أمور الدين . احتج المنكرون لذلك بأمور :
أحدها : أنه لو كان مأمورا به لأجاب عن كل سؤال ولما انتظر الوحي .
الثاني أنه لو كان مجتهدا لنقل ذلك عنه واستفاض .
الثالث : أنه لو كان لكان ينبغي أن يختلف اجتهاده ويتغير فيتهم بسبب تغير الرأي .
قلنا : أما انتظار الوحي فلعله كان حيث لم ينقدح له اجتهاد أو في حكم لا يدخله الاجتهاد أو نهي عن الاجتهاد فيه . وأما الاستفاضة بالنقل فلعله لم يطلع الناس عليه وإن كان متعبدا به ، أو لعله كان متعبدا بالاجتهاد إذا لم ينزل نص وكان ينزل النص فيكون كمن تعبد بالزكاة والحج إن ملك النصاب والزاد فلم يملك فلا يدل على أنه لم يكن متعبدا . وأما التهمة بتغير الرأي فلا تعويل عليها ، فقد اتهم بسبب النسخ كما قال تعالى : { قالوا إنما أنت مفتر } ولم يدل ذلك على استحالة النسخ ، كيف وقد عوض هذا الكلام بجنسه فقيل : لو لم يكن متعبدا بالاجتهاد لفاته ثواب المجتهدين ولكان ثواب المجتهدين أجزل من ثوابه ؟
وهذا أيضا فاسد ; لأن ثواب تحمل الرسالة والأداء عن الله تعالى فوق كل ثواب فإن قيل : فهل يجوز التعبد بوضع العبادات ونصب الزكوات وتقديراتها بالاجتهاد ؟ قلنا : لا محيل لذلك ولا يفضي إلى محال ومفسدة ، ولا بعد في أن يجعل الله تعالى صلاح عباده فيما يؤدي إليه اجتهاد رسوله لو كان الأمر مبنيا على الصلاح . ومنع القدرية هذا وقالوا : إن وافق ظنه الصلاح في البعض فيمتنع أن يوافق الجميع .
وهذا فاسد ; لأنه لا يبعد أن يلقي الله في اجتهاد رسوله ما فيه صلاح عباده ، هذا هو الجواز العقلي أما وقوعه فبعيد وإن لم يكن محالا بل الظاهر أن ذلك كله كان عن وحي صريح ناص على التفصيل .