القول في صيغة النهي
اعلم أن ما ذكرناه من مسائل الأوامر تتضح به أحكام النواهي ; إذ لكل مسألة وزان من النهي على العكس فلا حاجة إلى التكرار ، ولكنا نتعرض لمسائل لا بد من إفرادها بالكلام
مسألة : اختلفوا في أن النهي عن البيع ، والنكاح ، والتصرفات المفيدة للأحكام هل يقتضي فسادها ؟
فذهب الجماهير إلى أنه يقتضي فسادها ، وذهب قوم إلى أنه إن كان نهيا عنه لعينه دل على الفساد ، وإن كان لغيره فلا ، والمختار أنه لا يقتضي الفساد ، وبيانه أنا نعني بالفساد تخلف الأحكام عنها ، وخروجها عن كونها أسبابا مفيدة للأحكام ، ولو صرح الشارع وقال : " حرمت عليك استيلاد جارية الابن ، ونهيتك عنه لعينه لكن إن فعلت ملكت الجارية ، ونهيتك عن الطلاق في الحيض لعينه لكن إن فعلت بانت زوجتك ، ونهيتك عن إزالة النجاسة عن الثوب بالماء المغصوب لكن إن فعلت طهر الثوب ، ونهيتك عن ذبح شاة الغير بسكين الغير من غير إذن لكن إن فعلت حلت الذبيحة " . فشيء من هذا ليس يمتنع ، ولا يتناقض بخلاف قوله : " حرمت عليك الطلاق ، وأمرتك به أو أبحته لك ، وحرمت الاستيلاد لجارية الابن ، وأوجبته عليك " فإن ذلك متناقض لا يعقل ; لأن التحريم يضاد الإيجاب ، ولا يضاده كون المحرم منصوبا علامة على حصول الملك ، والحل ، وسائر الأحكام ، إذ يتناقض أن يقول : " حرمت الزنا ، وأبحته " ولا يتناقض أن يقول : " حرمت الزنا وجعلت الفعل الحرام في عينه سببا لحصول الملك في العوضين " فإن شرط التحريم التعرض لعقاب الآخرة فقط دون تخلف الثمرات ، والأحكام عنه . فإذا ثبت هذا فقوله : " لا تبع ، ولا تطلق ، ولا تنكح لو دل على تخلف الأحكام ، وهو المراد بالفساد فلا يخلو إما أن يدل من حيث اللغة أو من حيث الشرع ، ومحال أن يدل من حيث اللغة لأن العرب قد تنهى عن الطاعات ، وعن الأسباب المشروعة ، وتعتقد ذلك نهيا حقيقيا دالا على أن المنهي ينبغي أن لا يوجد ، أما الأحكام فإنها شرعية لا يناسبها اللفظ من حيث وضع اللسان إذ يعقل أن يقول العربي : هذا العقد الذي يفيد الملك ، والأحكام إياك أن تفعله ، وتقدم عليه ، ولو صرح به الشارع أيضا لكان منتظما مفهوما .
أما من حيث الشرع فلو قام دليل على أن النهي [ ص: 222 ] للإفساد ، ونقل ذلك عن النبي عليه السلام صريحا لكان ذلك من جهة الشرع تصرفا في اللغة بالتغيير أو كان صيغة النهي من جهته منصوبا علامة على الفساد ، ويجب قبول ذلك ، ولكن الشأن في إثبات هذه الحجة ، ونقلها ، وشبههم الشرعية أربع :
الشبهة الأولى : قولهم : إن المنهي عنه قبيح ، ومعصية فكيف يكون مشروعا ؟ قلنا : إن أردتم بالمشروع كونه مأمورا به أو مباحا أو مندوبا فذلك محال ، ولسنا نقول به ، وإن عنيتم به كونه منصوبا علامة للملك أو الحل أو حكم من الأحكام ففيه وقع النزاع ، فلم ادعيتم استحالته ، ولم يستحل أن يحرم الاستيلاد ، وينصب سببا لملك الجارية ، ويحرم الطلاق ، وينصب سببا للفراق بل لا يستحيل أن ينهى عن الصلاة في الدار المغصوبة ، وينصب سببا لبراءة الذمة ، وسقوط الفرض ؟
الشبهة الثانية : قولهم : إن النهي لا يرد من الشارع في البيع ، والنكاح إلا لبيان خروجه عن كونه مملكا أو مشروعا . قلنا : في هذا وقع النزاع ، فما الدليل عليه ؟ وكم من بيع ، ونكاح نهى عنه ، وبقي سببا للإفادة فما هذا التحكم .
الشبهة الثالثة : قوله عليه السلام : { } . كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ، ومن أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد
قلنا : معنى قوله : " رد " أي : غير مقبول طاعة وقربة ، ولا شك في أن المحرم لا يقع طاعة أما أن لا يكون سببا للحكم فلا فإن الاستيلاد ، والطلاق ، وذبح شاة الغير ليس عليه أمرنا ثم ليس برد بهذا المعنى .
الشبهة الرابعة : قولهم : أجمع سلف الأمة على الاستدلال بالمناهي على الفساد ، ففهموا فساد الربا من قوله : { وذروا ما بقي من الربا } واحتج رضي الله عنه في فساد نكاح المشركات بقوله : { ابن عمر ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ، وفي نكاح المحارم بالنهي .
قلنا : هذا يصح من بعض الأمة أما من جميع الأمة فلا يصح ، ولا حجة في قول البعض ، نعم يتمسك به في التحريم ، والمنع أما في الإفساد فلا .