مسألة ذهبت المعتزلة إلى أن المأمور لا يعلم كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال
ذهبت المعتزلة إلى أن . المأمور لا يعلم كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال
وذهب وجماهير أهل الحق إلى أنه يعلم ذلك ، وفي تفهيم حقيقة المسألة غموض ، وسبيل كشف الغطاء عنه أن القاضي نقول : إنما يعلم المأمور كونه مأمورا مهما كان مأمورا لأن العلم يتبع المعلوم ، وإنما يكون مأمورا إذا توجه الأمر عليه ، ولا خلاف أنه يتصور أن يقول السيد [ ص: 218 ] لعبده : " صم غدا " ، وأن هذا أمر محقق ناجز في الحال ، وإن كان مشروطا ببقاء العبد إلى غد ، ولكن اتفقت المعتزلة على أن الأمر المقيد بالشرط أمر حاصل ناجز في الحال ، لكن يشترط أن يكون تحقق الشرط مجهولا عند الآمر ، والمأمور ، أما إذا كان معلوما فلا ; فإنه لو قال : " صم إن صعدت إلى السماء أو إن عشت ألف سنة " ، فليس هذا بأمر ، أي : هذه الصيغة ليست عبارة عن حقيقة المعنى الذي يقوم بالنفس ، ويسمى أمرا ، ولو قال : " صم إن كان العالم مخلوقا أو كان الله موجودا " فهذا أمر ، ولكن ليس بمقيد بشرط ، وليس هذا من الشرط في شيء فإن الشرط هو الذي يمكن أن يوجد ، ولا يوجد ، فلما كان العلم بوجود الشرط أو عدمه منافيا وجود الأمر المقيد بالشرط زعموا أن الله عالم بعواقب الأمر فالشرط في أمره محال ، ونحن نسلم أن جهل المأمور شرط أما جهل الآمر فليس بشرط ، حتى لو علم السيد بقول نبي صادق أن عبده يموت قبل رمضان فيتصور أن يأمره بصوم رمضان ، مهما جهل العبد ذلك ، وربما كان له فيه لطف يدعوه إلى الطاعات ، ويزجره عن المعاصي ، وربما كان لطفا لغير المأمور بحث أو زجر ، وربما كان امتحانا له ليشتغل بالاستعداد فيثاب على العزم على الامتثال ، ويعاقب على العزم على الترك ، والمعتزلة أحالوا ذلك وقالوا : إذا شهد العبد هلال رمضان توجه عليه الأمر بحكم قوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } . لكن ذلك بناء على ظن البقاء ، ودوام القدرة ، فإن الحياة ، والقدرة شرط في التكليف فإذا مات في منتصف الشهر تبينا أنه كان مأمورا بالنصف الأول ، وأنه لم يكن مأمورا بالنصف الثاني .
ويدلك على بطلان مذهبهم مسالك :
المسلك الأول : أن الأمة مجمعة قبل ظهور المعتزلة أن الصبي كما يبلغ يجب عليه أن يعلم ، ويعتقد كونه مأمورا بشرائع الإسلام منهيا عن الزنا ، والسرقة ، والقتل في الحال ، وإن لم يحضره وقت صلاة ، ولا زكاة ، ولا حضر من يمكن قتله ، والزنا به ، ولا حضر مال تمكن سرقته ، ولكن يعلم نفسه مأمورا منهيا بشرط التمكن لأنه جاهل بعواقب أمره ، وعلمه بأن الله تعالى عالم بها لا يدفع عنه وجوب هذا الاعتقاد .
المسلك الثاني : أن الأمة مجمعة على أن من عزم على ترك ما ليس منهيا عنه فليس بمتقرب إلى الله تعالى ، ومن عزم على ترك المنهيات ، والإتيان بالمأمورات كان متقربا إلى الله تعالى ، وإن احتمل أن لا يكون مأمورا أو منهيا لعلم الله بأنه لا يساعده التمكن ، فينبغي أن نشك في كونه متقربا ، ونتوقف ، ونقول : إن مت بعد هذا العزم وقبل التمكن فلا ثواب لك لأنه لا تقرب منك ، وإن عشت ، وتمكنت تبينا عند ذلك كونك متقربا ، وهذا خلاف الإجماع .
المسلك الثالث : إجماع الأمة على أن صلاة الفرض لا تصح إلا بنية الفرضية ، ، ولا يعقل تثبيت نية الفرضية إلا بعد معرفة الفرضية ، والعبد ينوي في أول وقت الصلاة فرض الظهر ، وربما يموت في أثناء وقت الصلاة ، فيتبين عند المعتزلة أنه لم يكن فرضا فليكن شاكا في الفرضية ، وعند ذلك تمتنع النية فإن النية قصد لا يتوجه إلا إلى معلوم . فإن قيل : إن نوى فرضية أربع ركعات فلو مات بعد ركعتين يعلم أنه لم تكن الأربع فريضة ، وهو مجوز للموت ، فكيف ينوي فرض ما هو شاك فيه ؟ قلنا : ليس شاكا فيه بل هو قاطع بأن الأربع فرض بشرط البقاء ، فالأمر بالشرط أمر في الحال ، وليس بمعلق ، والفرض بالشرط فرض أي : أنه مأمور أمر إيجاب من عزم عليه يثاب [ ص: 219 ] ثواب من عزم على واجب ، وإذا قال السيد لعبده : " صم غدا " فهو أمر في الحال بصوم في الغد لأنه أمر في الغد ، وإذا قال له : " أوجبت عليك بشرط بقائك وقدرتك " فهو موجب في الحال لكن إيجابا بشرط ، فهكذا ينبغي أن تفهم حقيقة هذه المسألة .
وكذلك إذا قال لوكيله : " بع داري غدا " فهو موكل ، وآمر في الحال ، والوكيل مأمور ، ووكيل في الحال حتى يعقل أن يعزل قبل مجيء الغد ; فإذا قال الوكيل : " وكلني ثم عزلني ، وأمرني ثم منعني " كان صادقا فلو مات قبل مجيء الغد لا يتبين أنه كان كاذبا ، وقد حققنا هذا في مسألة نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال ، وفي نسخ الذبح عن إبراهيم عليه السلام ولهذا فرق الفقهاء بين أن يقول : " إذا جاء رأس الشهر فأنت وكيلي " وبين أن يقول : " وكلتك ببيع داري لكن تبيعها رأس الشهر " فإن الأول تعليق ، ومن منع تعليق الوكالة ربما جوز تنجيز الوكالة مع تأخير عند التنفيذ إلى رأس الشهر .
المسلك الرابع : إجماع الأمة على لزوم الشروع في صوم رمضان ، أعني : أول يوم مثلا ، ولو كان الموت في أثناء النهار يبين عدم الأمر فالموت مجوز فيصير الأمر مشكوكا فيه ، ولا يلزمه الشروع بالشك فإن قيل : لأنه إن بقي كان واجبا ، والظاهر بقاؤه ، والحاصل في الحال يستصحب والاستصحاب أصل تبنى عليه الأمور ، كما أن من أقبل عليه سبع يهرب ، وإن كان يحتمل موت السبع قبل الانتهاء إليه لكن الأصل بقاؤه فيستصحبه ولأنه لو فتح هذا الباب لم يتصور امتثال الأوامر المضيقة أوقاتها كالصوم فإنه إنما يعلم تمام التمكن بعد انقضاء اليوم ، ويكون قد فات . قلنا : هذا يلزمكم في الصوم ، ومذهبكم هو الذي يفضي إلى هذا المحال ، وما يفضي إلى المحال فهو محال ، وأما الهرب من السبع فحزم ، وأخذ بأسوأ الأحوال ، ويكفي فيه الاحتمال البعيد ، فإن من شك في سبع على الطريق أو سارق فيحسن منه الحزم والاحتراز ، أما الوجوب فلا يثبت بالشك والاحتمال ، وينبغي أن يقال من أعرض عن الصوم ، ومات قبل الغروب لم يكن عاصيا لأنه أخذ بالاحتمال الآخر ، وهو احتمال الموت فليكن معذورا به .
فإن زعموا أن ظن البقاء بالاستصحاب أورث ظن الوجوب ، وظن الوجوب اقتضى تحقق الوجوب من الشرع جزما قطعا ، فهذا تعسف ، وتناقض .
المسلك الخامس : أن الإجماع منعقد على أن من حبس المصلي في أول الوقت وقيده ، ومنعه من الصلاة متعد عاص بسبب منعه من الصلاة الواجبة ، فإن كان التكليف يندفع به فقد أحسن إليه إذا منع التكليف عنه فلم عصى ؟ وهذا فيه نظر لأنه عصى ، لأن التصرف في الغير بضبطه ، ومنعه حرام ، وإن منعه غير مباح أيضا ; ولأن منعه صار سببا لوجوب القضاء في ذمته ، وهو على خطر من فواته ، أو يحرم لأنه أخرجه عن أن يكلفه ، وفي التكليف مصلحة وقد فوتها عليه بدليل أنه لو قيده قبل وقت الصلاة أو قبل البلوغ إلى أن بلغ ، ودخل وقت الصلاة عصى ، ولم يكن على الصبي أمر ناجز لا بشرط ، ولا بغير شرط . شبه المعتزلة .
الأولى : قولهم : إثبات الأمر بشرط يؤدي إلى أن يكون وجود الشيء مشروطا بما يوجد بعده ، والشرط ينبغي أن يقارن أو يتقدم ، أما تأخير الشرط عن المشروط فمحال . قلنا : ليس هذا شرطا لوجود ذات الأمر وقيامه بذات الأمر ، بل الأمر موجود قائم بذات الأمر وجد الشرط [ ص: 220 ] أو لم يوجد ، وإنما هو شرط لكون الأمر لازما واجب التنفيذ ، وليس ذلك من شرط كونه موجودا بسبيل ; ولهذا قلنا : الأمر أمر للمعدوم بتقدير الوجود ، وإن لم يبلغه بشرط بلوغه فليس البلوغ شرطا لقيام نفس الأمر بذات الأمر بل للزوم تنفيذه . فإن قال قائل : اختلاف قول في أن من جامع في نهار رمضان ثم مات أو جن قبل الغروب هل يلزمه الكفارة ؟ هل يلتفت إلى هذا الأصل ؟ الشافعي قلنا : أما من ذهب إلى أنا نتبين عند زوال الحياة انتفاء الأمر من أصله فلا يمكنه إيجاب الكفارة ، وأما من ذهب إلى أنا لا نتبين عدم الأمر فيحتمل منه التردد إذ يحتمل أن يقول قد أفسد بالجماع الصوم الذي كان واجبا عليه وقطع الصوم الواجب بحكم الوقت ، وإفساده يوجب الكفارة ، ويحتمل أن يقال : وجبت الكفارة بإفساد صوم لا يتعرض للفساد والانقطاع قبل الغروب ، وهذا متعرض له فيكون هذا مانعا من الإلحاق بالصوم الذي يتعين الجماع لإفساده .
فإن قال قائل : فلو علمت المرأة بالعادة أنها تحيض في أثناء النهار أو بقول نبي صادق حيضا أو جنونا أو موتا فهل يلزمها الصوم حتى تصوم بعض اليوم ؟ قلنا على مذهب المعتزلة لا ينبغي أن يلزم ، لأن بعض اليوم غير مأمور به ، وهي غير مأمورة بالكل ، أما عندنا فالأظهر وجوبه لأن المرخص في الإفطار لم يوجد ، والأمر قائم في الحال ، والميسور لا يسقط بالمعسور . فإن قال قائل لو قال : إن صليت أو شرعت في الصلاة أو الصوم فزوجتي طالق ، ثم شرع ثم أفسد أو مات أو جن قبل الإتمام فقد اختلفوا في وقوع الطلاق ، فهل يلتفت هذا إلى هذا الأصل ؟ قلنا : نعم قياس مذهب المعتزلة أن لا يحنث لأن بعض الصوم ليس بصوم ، والفاسد ليس بصوم وقد تبين ذلك بالآخر ، وعلى مذهبنا ينبغي أن يحنث ، وهذه صلاة في الحال ، وتمامها مقيد بالشرط حتى لو قال : " والله لأعتكفن صائما " أو " إن اعتكفت صائما فزوجتي طالق ثلاثا " فاعتكف ساعة صائما ثم جن أو مات لم تجب الكفارة في تركته ، ولم ترثه زوجته .
ولا تخلو هذه المسائل عن الالتفات إلى هذا الأصل ، ولو قال : " إن أمرت عبدي فزوجتي طالق " ثم قال : " صم غدا " طلقت زوجته ، فإن مات قبل الغد فلا يتبين انتفاء الطلاق ، ولو قال : " إن وكلت وكيلا فزوجتي طالق ، وإن عزلت وكيلا فعبدي حر ثم وكل من يبيع داره غدا ثم عزل قبل الغد طلقت زوجته ، وعتق عبده .
الشبهة الثانية : وهي الأقوى : قولهم : إن الأمر طلب فلا يقوم بذات من يعلم امتناع وجود المأمور ، فكيف يقوم بذات السيد طلب الخياطة إن صعد العبد إلى السماء ، وهو يعلم أنه لا يصعد ؟ نعم يمكن أن يقول : خط إن صعدت إلى السماء لكنه صيغة أمر ، ولا يقوم الطلب بذاته ، كما لو قال له : اصعد إلى السماء ، لم يكن أمرا لعجزه ، وعلم الآمر بامتناعه إلا على مذهب من يجوز تكليف ما لا يطاق ، وأنتم قد ملتم إلى منع تكليف المحال ، وبه يفارق الآمر الجاهل ، فإن من لا يعرف عجز عبده عن القيام يتصور أن يقول : قم ، ويقوم بذاته الطلب ، أما إذا علم عجزه فلا يقوم بذاته طلب الممتنع .
وهذا التحقيق ، وهو أن الجهل إذا كان شرطا لقيام هذا الأمر بذاته فالمؤثر في صفة ذاته جهله لا جهل المأمور ، فمهما علم الآمر عدم الشرط ، فكيف يكون طالبا ؟ وإذا لم يكن طالبا فكيف يكون آمرا ، والأمر هو الطلب ؟ وهذا واقع ، والجواب : أن هذا لا يصح من المعتزلة مع إنكارهم كلام النفس ، أما [ ص: 221 ] عندنا فليس المراد بالطلب الذي هو معنى الأمر إرادة ، وتشوقا لأن المعاصي عندنا مرادة ، وهي غير مأمور بها ، والطاعات مأمور بها وقد لا تكون مرادة ، فإن ما أراد الله واقع ، والتشوق على الله محال ، وإنما معناه اقتضاء فعله لمصلحة العبد ، ولكنه يكون توطئة للنفس على عزم الامتثال أو الترك لما يخالفه لطفا به في الاستعداد والانحراف عن الفساد ، وهذا لطف متصور من الله تعالى ، ويتصور أيضا من السيد أن يستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه مع عزمه على نسخ الأمر قبل الامتثال امتحانا للعبد ، واستصلاحا له وكل أمر مقيد بشرط أن لا ينسخ وكل وكالة مقيدة بشرط أن لا يعزل الوكيل ، وقوله : " وكلتك ببيع العبد غدا " مع العلم بأنه سيعتق العبد قبل الغد وكالة في الحال يقصد بها استمالة الوكيل مثلا ، وامتحانه في إظهار الاستبشار بأمره أو الكراهية ، فكل ذلك معقول لهذه الفائدة ، وليس تحت الأمر إلا أنه اقتضاء من هذا الجنس ، والله أعلم .