الدعامة الثانية من مدارك العقول
الذي به التوصل إلى العلوم التصديقية المطلوبة بالبحث والنظر الدعامة الثانية من مدارك العقول : في البرهان
وهذه الدعامة تشتمل على ثلاثة فنون : سوابق ، ولواحق ، ومقاصد .
الفن الأول : في السوابق ويشتمل على تمهيد كلي وثلاثة فصول :
التمهيد : اعلم أن البرهان عبارة عن أقاويل مخصوصة ألفت تأليفا مخصوصا بشرط مخصوص يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر بالنظر ، وهذه الأقاويل إذا وضعت في البرهان لاقتباس المطلوب منها سميت مقدمات .
تارة يدخل في جهة نفس المقدمات إذ قد تكون خالية عن شروطها ، وأخرى من كيفية الترتيب والنظم وإن كانت المقدمات صحيحة يقينية ومرة منها جميعا . ومثاله من المحسوسات البيت ، المبني ، فإنه أمر مركب تارة يختل بسبب في هيئة التأليف بأن تكون الحيطان معوجة والسقف منخفضا إلى موضع قريب من الأرض فيكون فاسدا من حيث الصورة وإن كانت الأحجار والجذوع وسائر الآلات صحيحة ، وتارة يكون البيت صحيح الصورة في تربيعها ووضع حيطانها وسقفها ولكن يكون الخلل من رخاوة في الجذوع وتشعب في اللبنات هذا حكم البرهان والحد وكل أمر مركب ، فإن الخلل إما أن يكون في هيئة تركيبه وإما أن يكون في الأصل الذي يرد عليه التركيب ، كالثوب في القميص والخشب في الكرسي واللبن في الحائط والجذوع في السقف . والخلل في البرهان
وكما أن من يريد بناء بيت بعيد عن الخلل يفتقر إلى أن يعد الآلات المفردة أولا [ ص: 25 ] كالجذوع واللبن والطين ، ثم إن أراد اللبن افتقر إلى إعداد مفرداته وهو التبن والتراب والماء والقالب الذي فيه يضرب ، فيبدأ أولا بالأجزاء المفردة فيركبها ثم يركب المركب ، وهكذا إلى آخر العمل .
وكذلك طالب البرهان ينبغي أن ينظر في نظمه وصورته وفي المقدمات التي فيها النظم والترتيب ، مقدمتان أعني علمين يتطرق إليهما التصديق والتكذيب ، وأقل ما تحصل منه مقدمة معرفتان توضع إحداهما مخبرا عنها والأخرى خبرا ووصفا فقد انقسم البرهان إلى مقدمتين وانقسم كل مقدمة إلى معرفتين تنسب إحداهما إلى الأخرى وكل مفرد فهو معنى ويدل عليه لا محالة بلفظ ، فيجب ضرورة أن ننظر في المعاني المفردة وأقسامها ثم في الألفاظ المفردة ووجوه دلالتها . وأقل ما ينتظم منه برهان
ثم إذا فهمنا اللفظ مفردا والمعنى مفردا ألفنا معنيين وجعلناهما مقدمة ، وننظر في حكم المقدمة وشروطها ثم نجمع مقدمتين ونصوغ منهما برهانا وننظر في كيفية الصياغة الصحيحة وكل من أراد أن يعرف البرهان بغير هذا الطريق فقد طمع في المحال وكان كمن طمع في أن يكون كاتبا يكتب الخطوط المنظومة وهو لا يحسن كتابة الكلمات ، أو يكتب الكلمات وهو لا يحسن كتب الحروف المفردة .
وهكذا القول في كل مركب ، فإن أجزاء المركب تقدم على المركب بالضرورة حتى لا يوصف القادر الأكبر بالقدرة على خلق العلم بالمركب دون الآحاد ، إذ لا يوصف بالقدرة على تعليم الخطوط المنظومة دون تعليم الكلمات . فلهذه الضرورة اشتملت دعامة البرهان على فن في السوابق وفن في المقاصد وفن في اللواحق .