امتحان ثالث اختلفوا في ، فقيل : الواجب ما تعلق به الإيجاب ، وهو فاسد ، كقولهم : العلم ما يعلم به ، وقيل : ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه ، وقيل : ما يجب بتركه العقاب ، وقيل : ما لا يجوز العزم على تركه ، وقيل : ما يصير المكلف بتركه عاصيا ، وقيل : ما يلام تاركه شرعا . وأكثر هذه الحدود تعرض للوازم والتوابع ، وسبيلك إن أردت الوقوف على حقيقته أن تتوصل إليه بالتقسيم كما أرشدناك إليه في حد العلم . فاعلم أن الألفاظ في هذا الفن خمسة الواجب ، والمحظور ، والمندوب ، والمكروه ، والمباح ، فدع الألفاظ جانبا ورد النظر إلى المعنى أولا ، فأنت تعلم أن الواجب اسم مشترك إذ يطلقه المتكلم في مقابلة الممتنع ، ويقول وجود الله تعالى واجب وقال الله تعالى : { حد الواجب وجبت جنوبها } . ويقال وجبت الشمس ، وله بكل معنى عبارة ، والمطلوب الآن مراد الفقهاء . وهذه الألفاظ لا شك أنها لا تطلق على جوهر بل على عرض ، ولا على كل عرض بل من جملتها على الأفعال فقط ، ومن الأفعال على أفعال المكلفين لا على أفعال البهائم . فإذا نظرك إلى أقسام الفعل لا من حيث كونه مقدورا وحادثا ومعلوما ومكتسبا ومخترعا ، وله حسب كل نسبة انقسامات إذ عوارض الأفعال ولوازمها كثيرة فلا نظر فيها ولكن إطلاق هذا الاسم عليها من حيث نسبتها إلى خطاب الشرع فقط ، فنقسم الأفعال بالإضافة إلى خطاب الشرع ، فنعلم أن الأفعال تنقسم إلى ما لا يتعلق به خطاب الشرع كفعل المجنون وإلى ما يتعلق به والذي يتعلق به ينقسم إلى ما يتعلق به على وجه التخيير والتسوية بين الإقدام عليه وبين الإحجام عنه ويسمى مباحا وإلى ما ترجح فعله على تركه وإلى ما ترجح تركه على فعله ، والذي ترجح فعله على تركه ينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على تركه ويسمى مندوبا وإلى ما أشعر بأنه يعاقب على تركه ويسمى واجبا . ثم ربما خص فريق اسم الواجب بما أشعر بالعقوبة عليه ظنا وما أشعر به قطعا خصوه باسم الفرض . ثم لا مشاحة في الألفاظ بعد معرفة المعاني ، وأما المرجح تركه فينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على فعله ويسمى مكروها ، وقد يكون منه ما أشعر بعقاب على فعله في الدنيا كقوله صلى الله عليه وسلم { } وإلى ما أشعر بعقاب في الآخر على فعله ، وهو المسمى محظورا وحراما ومعصية ، فإن قلت : فما معنى قولك أشعر ؟ فمعناه أنه عرف بدلالة من خطاب صريح أو قرينة أو معنى مستنبط أو فعل أو إشارة ، فالإشعار يعم جميع المدارك فإن قلت : فما معنى قولك عليه عقاب ؟ قلنا : معناه أنه أخبر أنه سبب العقاب في الآخرة ، فإن قلت : فما المراد بكونه سببا ؟ فالمراد به ما يفهم من قولنا الأكل سبب الشبع وحز الرقبة سبب الموت والضرب سبب الألم والدواء سبب الشفاء . فإن قلت : فلو كان سببا لكان لا يتصور أن لا يعاقب ، وكم من تارك واجب يعفى عنه [ ص: 24 ] ولا يعاقب فأقول : ليس كذلك ، إذ لا يفهم من قولنا الضرب سبب الألم والدواء سبب الشفاء أن ذلك واجب في كل شخص أو في معين مشار إليه ، بل يجوز أن يعرض في المحل أمر يدفع السبب ولا يدل ذلك على بطلان السببية ، فرب دواء لا ينفع ورب ضرب لا يدرك المضروب ألمه لكونه مشغول النفس بشيء آخر ، كمن يجرح في حال القتال وهو لا يحس في الحال به ، وكما أن العلة قد تستحكم فتدفع أثر الدواء فكذلك قد يكون في سريرة الشخص وباطنه أخلاق رضية وخصال محمودة عند الله تعالى مرضية توجب العفو عن جريمته ولا يوجب ذلك خروج الجريمة عن كونها سبب العقاب . من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه
فإن قال قائل : ؟ قلنا : أما الحد اللفظي فيجوز أن يكون ألفا إذ ذلك بكثرة الأسامي الموضوعة للشيء الواحد ، وأما الرسمي فيجوز أيضا أن يكثر لأن عوارض الشيء الواحد ولوازمه قد تكثر . وأما الحد الحقيقي فلا يتصور أن يكون إلا واحدا لأن الذاتيات محصورة ، فإن لم يذكرها لم يكن حدا حقيقيا ، وإن ذكر مع الذاتيات زيادة فالزيادة حشو . فإذا هذا الحد لا يتعدد وإن جاز أن تختلف العبارات المترادفة ، كما يقال في حد الحادث إنه الموجود بعد العدم أو الكائن بعد أن لم يكن أو الموجود المسبوق بعدم أو الموجود عن عدم ، فهذه العبارات لا تؤدي إلا معنى واحدا فإنها في حكم المترادفة . هل يتصور أن يكون للشيء الواحد حدان
ولنقتصر في الامتحانات على هذا القدر فالتنبيه حاصل به إن شاء الله تعالى .