الفن الثاني من دعامة الحد في الامتحانات للقوانين
في : الامتحانات للقوانين بحدود مفصلة
وقد أكثرنا أمثلتها في كتاب معيار العلم ومحك النظر " ونحن الآن مقتصرون على حد الحد وحد العلم وحد الواجب لأن هذا النمط من الكلام دخيل في علم الأصول فلا يليق فيه الاستقصاء .
الامتحان الأول : ، فمن قائل ، يقول : حد الشيء هو حقيقته وذاته ، ومن قائل يقول : حد الشيء هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يمنع ويجمع ، ومن قائل ثالث يقول : هذه المسألة خلافية فينصر أحد الحدين على الآخر ، فانظر كيف تخبط عقل هذا الثالث فلم يعلم أن الاختلاف إنما يتصور بعد التوارد على شيء واحد ، وهذان قد تباعدا وتنافرا وما تواردا على شيء واحد . وإنما منشأ هذا الغلط الذهول عن معرفة الاسم المشترك على ما سنذكره فإن من يحد العين بأنه العضو المدرك للألوان بالرؤية لم يخالف من حده بأنه الجوهر المعدني الذي هو أشرف النقود بل حد هذا أمرا مباينا لحقيقة الأمر الآخر ، وإنما اشتركا في اسم العين فافهم هذا فإنه قانون كثير النفع . فإن قلت : فما الصحيح عندك في حد الحد فاعلم أن كل من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه ومن قرر المعاني أولا في عقله ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى . فلنقرر المعاني ، فنقول : اختلف الناس في حد الحد الشيء له في الوجود أربع مراتب
الأولى : حقيقته في نفسه . [ ص: 19 ]
الثانية : ثبوت مثال حقيقة في الذهن وهو الذي يعبر عنه بالعلم .
الثالثة : تأليف صوت بحروف تدل عليه وهو العبارة الدالة على المثال الذي في النفس .
الرابعة : تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ وهو الكتابة ، فالكتابة تبع للفظ إذ تدل عليه واللفظ تبع للعلم إذ يدل عليه والعلم تبع للمعلوم إذ يطابقه ويوافقه ، وهذه الأربعة متطابقة متوازية إلا أن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان بالأعصار والأمم والآخرين وهو اللفظ والكتابة يختلفان بالأعصار والأمم لأنهما موضوعان بالاختيار ، ولكن الأوضاع وإن اختلفت صورها فهي متفقة في أنها قصد بها مطابقة الحقيقة ، ومعلوم أن الحد مأخوذ من المنع وإنما استعير لهذه المعاني لمشاركته في معنى المنع ، فانظر المنع أين تجده في هذه الأربعة . فإذا ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاصرة للشيء مخصوصة به إذ حقيقة كل شيء خاصيته التي له وليست لغيره فإذا الحقيقة جامعة مانعة ، وإن نظرت إلى مثال الحقيقة في الذهن وهو العلم وجدته أيضا كذلك لأنه مطابق للحقيقة المانعة والمطابقة توجب المشاركة في المنع ، وإن نظرت إلى العبارة عن العلم وجدتها أيضا حاصرة فإنها مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق ، وإن نظرت إلى الكتابة وجدتها مطابقة للفظ المطابق للعلم المطابق للحقيقة فهي أيضا مطابقة فقد وجدت المنع في الكل إلا أن العادة لم تجر بإطلاق الحد على الكتابة التي هي الرابعة ولا على العلم الذي هو الثاني بل هو مشترك بين الحقيقة وبين اللفظ كلفظ العين . فإذا عند الإطلاق على نفس الشيء يكون حدا لحد أنه حقيقة الشيء وذاته وعند الإطلاق الثاني يكون حدا لحد أنه اللفظ الجامع المانع ، إلا أن الذين أطلقوه على اللفظ أيضا اصطلاحهم مختلف كما ذكرناه في الحد اللفظي والرسمي والحقيقي ، فحد الحد عند من يقنع بتكرير اللفظ كقولك الموجود هو الشيء والعلم هو المعرفة والحركة هي النقلة هو تبديل اللفظ بما هو أوضح عند السائل على شرط أن يجمع ويمنع . وأما وكل لفظ مشترك بين حقيقتين فلا بد أن يكون له حدان مختلفان فإنه اللفظ الشارح للشيء بتعديد صفاته الذاتية أو اللازمة على وجه يميزه عن غيره تمييزا يطرد وينعكس ، وأما حده عند من لا يطلق اسم الحد إلا على الحقيقي فهو أنه القول الدال على تمام ماهية الشيء ، ولا يحتاج في هذا إلى ذكر الطرد والعكس لأن ذلك تبع للماهية بالضرورة ، ولا يحتاج إلى التعرض للوازم فإنها لا تدل على الماهية بل لا يدل على الماهية إلا الذاتيات فقد عرفت أن اسم الحد مشترك في الاصطلاحات بين الحقيقة وشرح اللفظ والجمع بالعوارض والدلالة على الماهية ، فهذه أربعة أمور مختلفة كما دل لفظ العين على أمور مختلفة ، حد الحد عند من يقنع بالرسميات
فتعلم صناعة الحد .
فإذا ذكر لك اسم وطلب منك حده فانظر فإن كان مشتركا فاطلب عدة المعاني التي فيها الاشتراك ، فإن كانت ثلاثة فاطلب لها ثلاثة حدود ، فإن الحقائق إذا اختلفت فلا بد من اختلاف الحدود ، فإذا قيل لك : ما الإنسان ؟ فلا تطمع في حد واحد فإن الإنسان مشترك بين أمور ، إذ يطلق على إنسان العين وله حد وعلى الإنسان المعروف وله حد آخر وعلى الإنسان المصنوع على [ ص: 20 ] الحائط المنقوش وله حد آخر وعلى الإنسان الميت وله حد آخر ، فإن اليد المقطوعة والذكر المقطوع يسمى ذكرا أو تسمى يدا ولكن بغير الوجه الذي كانت تسمى به حين كانت غير مقطوعة ، فإنها كانت تسمى به من حيث إنها آلة البطش وآلة الوقاع ، وبعد القطع تسمى به من حيث إن شكلها شكل آلة البطش ، حتى لو بطل بالتقطيعات الكثيرة شكلها سلب هذا الاسم عنها ، ولو صنع شكلها من خشب أو حجر أعطي الاسم .
وكذلك إذا قيل : ؟ فلا تطمع في أن تحده بحد واحد فإنه هوس ، لأن ما حد العقل ، إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية ويطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لدرك العلوم النظرية ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة ، حتى إن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يسمى عاقلا ، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه وهو عبارة عن الهدو ، فيقال فلان عاقل أي فيه هدو ، وقد يطلق على من جمع العمل إلى العلم ، حتى إن المفسد وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلا فلا يقال اسم العقل مشترك يطلق على عدة معان للحجاج عاقل بل داه ولا يقال للكافر عاقل وإن كان محيطا بجملة العلوم الطبية والهندسية ، بل إما فاضل وإما داه وإما كيس .
فإذا اختلفت الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تختلف الحدود ، فيقال في حد العقل باعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية كجواز الجائزات واستحالة المستحيلات كما قاله رحمه الله ، وبالاعتبار الثاني إنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات وهكذا بقية الاعتبارات . القاضي أبو بكر الباقلاني
فإن قلت : فنرى الناس يختلفون في الحدود وهذا الكلام يكاد يحيل الاختلاف في الحد ، أترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقلاء ؟ فاعلم أن أحدهما : أن يكون اللفظ في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو قول إمام من الأئمة يقصد الاطلاع على مراده به فيكون ذلك اللفظ مشتركا فيقع النزاع في مراده به فيكون قد وجد التوارد على القائل والتباين بعد التوارد فالخلاف تباين بعد التوارد ، وإلا فلا نزاع بين من يقول : السماء قديمة وبين من يقول : الإنسان مجبور على الحركات ، إذ لا توارد ، فلو كان لفظ الحد في كتاب الله تعالى أو في كتاب إمام لجاز أن يتنازع في مراده ويكون إيضاح ذلك من صناعة التفسير لا من صناعة النظر العقلي الثاني : أن يقع الاختلاف في مسألة أخرى على وجه محقق ويكون المطلوب حده أمرا ثانيا لا يتحد حده على المذهبين فيختلف ، كما يقول المعتزلي : حد العلم اعتقاد الشيء على ما هو به ونحن نخالف في ذكر الشيء ، فإن المعدوم عندنا ليس بشيء وهو معلوم ، فالخلاف في مسألة أخرى يتعدى إلى هذا الحد . الاختلاف في الحد يتصور في موضعين
وكذلك يقول القائل : حد العقل بعض العلوم الضرورية على وجه كذا وكذا ، ويخالف من يقول في حده إنه غريزة يتميز بها الإنسان عن الذئاب وسائر الحيوانات من حيث إن القائل الأول ينكر تميز العين بغريزة عن العقب وتميز الإنسان بغريزة عن الذئاب بها يتهيأ للنظر في العقليات ، لكن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم في القلب دون العقب وفي الإنسان دون الذئاب وخلق البصر في العين دون العقب لا لتميزه بغريزة استعد بسببها لقبوله ، فيكون منشأ الاختلاف في الحد الاختلاف في إثبات هذه الغريزة أو نفيها .
فهذه أمور وإن أوردناها في [ ص: 21 ] معرض الامتحان فقد أدرجنا فيها ما يجري على التحقيق مجرى القوانين .