ويأتي بيانه في حال كونه ( عمدا : محرم وجرح ) لمتعمده . وللتدليس معنيان من حيث اللغة والاصطلاح ، فمعناه في اللغة : كتمان العيب في مبيع أو غيره . ويقال : دالسه ، خادعه ، كأنه من الدلس وهو الظلمة ; لأنه إذا غطى عليه الأمر أظلمه عليه . وأما في الاصطلاح ، فقسمان ( وتدليس المتن ) ، فالمضر : هو تدليس المتن . وسماه المحدثون المدرج - بكسر الراء - اسم فاعل . : قسم مضر يمنع القبول . وقسم لا يضر
، وفاعله عمدا مرتكب محرما مجروح عند العلماء لما فيه من الغش . فالراوي للحديث إذا أدخل فيه شيئا من كلامه أولا أو آخرا أو وسطا على وجه [ ص: 287 ] يوهم أنه من جملة الحديث الذي رواه
أما لو اتفق ذلك من غير قصد من صحابي أو غيره ، فلا يكون ذلك محرما . ومن أمثلة ذلك : حديث رضي الله عنه في التشهد . قال في آخره { ابن مسعود } وهو من كلامه ، لا من الحديث المرفوع . قال فإذا قلت هذا ، فإن شئت أن تقوم فقم ، وإن شئت أن تقعد فاقعد البيهقي والخطيب والنووي وغيرهم : وهذا من المدرج أخيرا ، ومثال : المدرج أولا ، ما رواه بسنده عن الخطيب رضي الله عنه { أبي هريرة } فإن " أسبغوا الوضوء " من كلام أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار ، ومثال الوسط : ما رواه أبي هريرة عن الدارقطني بسرة بنت صفوان رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { من مس ذكره ، أو أنثييه أو رفغه ، فليتوضأ } قال : فذكر الأنثيين ، والرفغ مدرج ، إنما هو من قول عروة الراوي عن بسرة ، ومرجع ذلك إلى المحدثين ، ويعرف ذلك بأن يرد من طريق أخرى التصريح بأن ذلك من كلام الراوي ، وهو طريق ظني ، قد يقوى وقد يضعف ، وعلى كل حال حيث فعل ذلك المحدث عمدا ، بأن قصد إدراج كلامه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم من غير تبيين ، بل دلس ذلك : كان فعله حراما ، ويصير مجروحا مردود الحديث ( و ) القسم الثاني ( غيره ) أي غير المضر الذي هو تدليس المتن ( مكروه مطلقا ) وله صور . إحداها : أن يسمي شيخه في روايته باسم له غير مشهور من كنية أو لقب أو اسم ونحوه ، كقول أبي بكر بن مجاهد المقرئ الإمام : حدثنا . يريد به عبد الله بن أبي أوفى عبد الله بن أبي داود السجستاني . وقوله أيضا : حدثنا محمد بن أسيد ، ويريد به النقاش المفسر - نسبة إلى جده - وهو كثير جدا ، ويسمى هذا تدليس الشيوخ .
وأما تدليس الإسناد : فهو أن يروي عمن لقيه أو عاصره حديثا لم يسمعه منه ، موهما سماعه منه ، قائلا : قال فلان أو عن فلان ونحوه .
وربما لم يسقط شيخه وأسقط غيره . قاله . ومثله غيره . كما في ابن الصلاح الترمذي [ ص: 288 ] عن ابن شهاب عن عن أبي سلمة رضي الله عنها مرفوعا { عائشة } ثم قال : هذا حديث لا يصح ; لأن لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين الزهري لم يسمعه من ، ثم ذكر أن بينهما أبي سلمة سليمان بن أرقم عن ، وأن هذا وجه الحديث ، قال يحيى بن أبي كثير : هذا القسم مكروه جدا ذمه العلماء . وكان ابن الصلاح من أشدهم ذما له ، وقال مرة : التدليس أخو الكذب ، ولأن أزني أحب إلي من أن أدلس . وهذا منه إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه . الصورة الثانية : أن يسمي شيخه باسم شيخ آخر لا يمكن أن يكون رواه عنه ، كما يقوله تلامذة شعبة الحافظ أبي عبد الله الذهبي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، تشبيها بقول فيما يرويه عن شيخه البيهقي أبي عبد الله الحاكم : حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، وهذا لا يقدح لظهور المقصود منه . الصورة الثالثة : أن يأتي في التحديث بلفظ يوهم أمرا لا قدح في إيهامه ، وذلك كقوله : حدثنا وراء النهر ، موهما أنه نهر جيحون ، وهو نهر عيسى ببغداد أو الحيرة ونحوها بمصر ، فلا قدح في ذلك ; لأنه من باب الإغراب ، وإن كان فيه إيهام الرحلة إلا أنه صدق في نفسه . إذا تقرر ذلك فأكثر العلماء على أن ذلك كله مكروه ، قال في رواية أحمد حرب والمروذي : لا يعجبني ، هو من أهل الريبة . ولا يغير اسم رجل ; لأنه لا يعرف . وسأله مهنا عن ؟ قال : ثقة إذا لم يدلس . قلت : في التدليس عيب ؟ قال : نعم ، قال هشيم الشيخ تقي الدين : والأشبه تحريمه ، لأنه أبلغ من تدليس المبيع ( ومن عرف به عن الضعفاء لم تقبل روايته حتى يبين السماع ) يعني أن من عرف بالتدليس في روايته عن الضعفاء موهما أن سماعه عن غيرهم : لم تقبل روايته حتى يبين ، بأن يفصح بتعيين الذي سمع منه ، عند المحدثين وغيرهم ، وقاله بعض أصحابنا وأبو الطيب وغيره من الشافعية ، وهو ظاهر المعنى ( ومن كثر منه ) التدليس ( لم تقبل عنعنته ) قاله ، قال المجد ابن مفلح : ويتوجه أن يحمل تشبيه ذلك بما سبق في الضبط من كثرة السهو وغلبته ، وما في البخاري من ذلك محمول على أن السماع من طريق [ ص: 289 ] آخر ، ومن دلس متأولا قبل عند ومسلم وأصحابه ، والأكثر من الفقهاء والمحدثين ولم يفسق ; لأنه قد صدر من الأعيان المقتدى بهم . وقل من سلم منه . وقد رد الإمام أحمد رضي الله عنه قول أحمد : التدليس كذب . قيل شعبة : كان للإمام أحمد يقول : إن التدليس كذب . فقال : لا ، قد دلس قوم . ونحن نروي عنهم ( والمعنعن بلا تدليس بأي لفظ كان متصل ) يعني : أن شعبة كان متصل عند الإسناد المعنعن الذي لا يعلم فيه تدليس بأي لفظ رضي الله تعالى عنه والأكثر من المحدثين وغيرهم ، عملا بالظاهر . والأصل عدم التدليس ، لكن شرط الإمام أحمد ثلاثة شروط : العدالة ، واللقاء ، وعدم التدليس . قال ابن عبد البر رضي الله عنه : ما رواه الإمام أحمد عن الأعمش إبراهيم عن عن علقمة عن النبي صلى الله عليه وسلم . أو رواه عبد الله الزهري عن سالم عن أبيه ، عن وداود الشعبي عن عن علقمة عن النبي صلى الله عليه وسلم : كل ذلك ثابت . وذكر جماعة : أن الإسناد المعنعن ليس بمتصل . قال عبد الله : عده بعض الناس من قبيل المرسل والمنقطع ، حتى يتبين اتصاله بغيره . فيجعل مرسلا ، إن كان من قبيل الصحابي ، ومنقطعا إن كان من قبيل غيره . وقولنا " بأي لفظ كان " يشمل " عن وإن وقال " ونحوه على الصحيح . ونقل ابن الصلاح عن أبو داود : أن " إن فلانا " ليست للاتصال ، ولم يفرق القاضي وغيره من أصحابنا بين المدلس وغيره ، علم إمكان اللقاء أو لا . قال أحمد ابن مفلح : ولعله غير مراد ( ويكفي إمكان لقي ) دون العلم به ( في قول ) اختاره . وحكاه عن أهل العلم بالأخبار . قال مسلم ابن مفلح : وهو معنى ما ذكره أصحابنا فيما يرد به الخبر وما لا يرد . قال ابن رجب في آخر شرح الترمذي . وهو قول كثير من العلماء المتأخرين . وهو ظاهر كلام وغيره واشترط ابن حبان علي بن المديني وغيرهما : العلم باللقي . قال والبخاري ابن رجب في شرح الترمذي : هو قول جمهور المتقدمين ، وهو مقتضى كلام الإمام أحمد وأبي زرعة وغيرهم من أعيان الحفاظ ، بل كلامهم يدل على اشتراط ثبوت السماع ، فإنهم قالوا في جماعة من الأعيان ثبتت لهم الرؤية لبعض الصحابة . وقالوا مع ذلك : لم يثبت [ ص: 290 ] لهم السماع منهم . فرواياتهم عنهم مرسلة . منهم وأبي حاتم ، الأعمش ويحيى بن أبي كثير وأيوب وابن عون . : رأوا وقرة بن خالد ولم يسمعوا منه ، فرواياتهم عنه مرسلة . كذا قال أنسا . وقاله أبو حاتم أبو زرعة أيضا في . وقال يحيى بن أبي كثير في الإمام أحمد : قد رأى يحيى بن أبي كثير فلا أدري أسمع منه أم لا ؟ ولم يجعلوا روايته عنه متصلة بمجرد الرؤية ، والرؤية أبلغ من إمكان اللقي . وكذلك كثير من صبيان الصحابة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح لهم سماع منه . أنسا
فرواياتهم عنه مرسلة . كطارق بن شهاب وغيره . وكذلك من علم منه أنه مع اللقاء لم يسمع ممن لقيه إلا شيئا يسيرا . فروايته زيادة على ذلك مرسلة . كروايات عن ابن المسيب . فإن الأكثرين نفوا سماعه منه . وأثبت عمر أنه رآه وسمع منه ، وقال مع ذلك : رواياته عنه مرسلة . إنما سمع منه شيئا يسيرا ، مثل نعيه أحمد على المنبر ونحو ذلك . وكذلك سماع النعمان بن مقرن من الحسن عثمان وهو على المنبر يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام ، ورواياته عنه غير ذلك مرسلة . وقال : أحمد لم يسمع من ابن جريج ولا حرفا . ويقول : رأيت طاوس . وقال طاوسا أيضا : أبو حاتم الرازي الزهري لا يصح سماعه من ، رآه ولم يسمع منه ورأى ابن عمر ولم يسمع منه . وأثبت أيضا دخول عبد الله بن جعفر مكحول على ورؤيته له ومشافهته ، وأنكر سماعه منه . وقال : لم يصح له منه سماع ، وجعل رواياته عنه مرسلة . وقال واثلة بن الأسقع : أحمد لم يسمع من أبيه ، من أين سمع منه ؟ ومراده : من أين صحت روايته بسماعه منه ، وإلا فإمكان ذلك واحتماله غير مستبعد . وقال أبان بن عثمان أبو زرعة في : لم يسمع من أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، هذا مع أن عمر أبا أمامة رأى النبي صلى الله عليه وسلم . فدل كلام رضي الله عنه الإمام أحمد وأبي زرعة على أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع . وهذا أضيق من قول وأبي حاتم ابن المديني ، فإن المحكي عنهما : أنه يعتبر أحد أمرين : إما السماع ، وإما اللقاء . والبخاري ومن تبعه عندهم : لا بد من ثبوت السماع ، [ ص: 291 ] ويدل على أن هذا مرادهم : أن والإمام أحمد قال : أحمد لم يجئ عنه سماع من ابن سيرين . وقال ابن عباس : أبو حاتم الزهري أدرك أبان بن عياش ومن هو أكبر منه ، ولكن لا يثبت له السماع ، كما أن لا يثبت له السماع من حبيب بن أبي ثابت عروة ، وقد سمع ممن هو أكبر منه ، غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك واتفاقهم على شيء يكون حجة ، واعتبار السماع لاتصال الحديث هو الذي ذكره ، وحكاه عن العلماء ، وقوة كلامه تشعر بأنه إجماع منهم ( وظاهره ) أي وظاهر قول من قال : إنه يكفي إمكان اللقاء ( لو روى ) ثقة ( عمن ) أي عن إنسان ( لم يعرف بصحبته ، و ) ولا ب ( روايته عنه يقبل مطلقا ) سواء أقر به أصحاب الشيخ الذي روى عنه أو أنكروه ; لأنه ثقة . وقاله الحنفية ابن عبد البر وابن برهان ، ولم يقبله الشافعية . وكلام رضي الله عنه في ذلك مختلف . قال الإمام أحمد في المسودة : إذا المجد ، وأجمع أصحاب الشيخ المعروفون على جهالته بينهم ، وأنه ليس منهم : هل يمنع ذلك قبول خبره ؟ قالت الشافعية : يمنع ، وقالت الحنفية : لا يمنع ، ونصره روى رجل خبرا عن شيخ مشهور لم يعرف بصحبته ولم يشتهر بالرواية عنه ابن برهان . والأول : ظاهر كلام في مواضع ، وأكثر المحدثين . والثاني : يدل على كلام الإمام أحمد في اعتذاره الإمام أحمد لجابر الجعفي في قصة مع زوجته . وقد قال هشام بن عروة : المحققون من العلماء يمنعون رد الخبر بالاستدلال ، كرد خبر القهقهة استدلالا بفضل الصحابة رضي الله عنهم المانع من الضحك . وردت ابن عقيل عائشة رضي الله عنها قول في الرؤية ، وقول بعضهم إن قوله { ابن عباس } بعيد الصحة ; لأن السنة تأتي بالعجائب . ولو شهدت بينة على معروف بالخبر بإتلاف أو غضب لم ترد بالاستبعاد . هذا معنى كلام أصحابنا وغيرهم في رده بما يحيله العقل ( ولا يشترط في قبول خبر أن لا ينكر ) يعني أنه لو روى ثقة خبرا فأنكره غيره لم يمنع ذلك من قبوله عندنا . وأومأ إليه لأزيدن على السبعين خلافا للحنفية ، ذكره الإمام أحمد في الخلاف في خبر القاضي ورد فاطمة بنت قيس له . وكذا قال عمر : جواب [ ص: 292 ] من قال رده ابن عقيل السلف : أن الثقة لا يرد حديثه لإنكار غيره ; لأن معه زيادة .