( فصل ) في اللغة ، وأصلها : لغوة على وزن فعلة . من لغوت إذا تكلمت . وهي توقيف ووحي ، لا اصطلاح وتواطؤ على الأشهر . وذلك لما روى في تفسيره بسنده إلى وكيع في قوله سبحانه وتعالى ( { ابن عباس وعلم آدم الأسماء كلها } ) قال " علمه اسم كل شيء . حتى علمه القصعة والقصيعة ، والفسوة والفسية " ولما روى ابن جرير في تفسيره من طريق الضحاك إلى في قوله تعالى ( { ابن عباس وعلم آدم الأسماء كلها } ) قال " هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس الآن نحو : إنسان ، دابة ، أرض ، سهل ، بحر ، جبل ، حمار . وأشباه ذلك من الأسماء وغيرها " .
ثم إن . فالمتواردة : كما تسمى الخمر عقارا . تسمى صهباء وقهوة ، والسبع : ليثا ، وأسدا وضرغاما . والمترادفة : هي التي يقام لفظ مقام لفظ ، لمعان متقاربة ، يجمعها معنى واحد ، كما يقال : أصلح الفاسد . ولم الشعث ، ورتق الفتق ، وشعب الصدع . وهذا يحتاج إليه البليغ في بلاغته . فبحسن الألفاظ واختلافها على المعنى الواحد ترصع المعاني في القلوب ، وتلتصق بالصدور ، وتزيد حسنه وحلاوته بضرب الأمثلة والتشبيهات المجازية . ثم تنقسم الألفاظ أيضا إلى مشتركة ، وإلى عامة مطلقة ، وتسمى مستغرقة [ ص: 29 ] وإلى ما هو مفرد بإزاء مفرد . وسيأتي بيان ذلك . ألفاظ اللغة تنقسم إلى متواردة ، وإلى مترادفة
والداعي إلى ذكر اللغة هاهنا : لكونها من الأمور المستمد منها هذا العلم ، وذلك أنه لما كان الاستدلال من الكتاب والسنة ، اللذين هما أصل الإجماع والقياس ، وكانا أفصح الكلام العربي : احتيج إلى معرفة لغة العرب ، لتوقف الاستدلال منهما عليها .
فإن قيل : من سبق نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء والمرسلين ، إنما كان مبعوثا لقومه خاصة فهو مبعوث بلسانهم ، محمد صلى الله عليه وسلم مبعوث لجميع الخلق . فلم لم يبعث بجميع الألسنة ، ولم يبعث إلا بلسان بعضهم ، وهم ونبينا العرب ؟ فالجواب : أنه لو بعث بلسان جميعهم ، لكان كلامه خارجا عن المعهود ، ويبعد بل يستحيل - أن ترد كل كلمة من القرآن مكررة بكل الألسنة . فيتعين البعض . وكان لسان العرب أحق ، لأنه أوسع وأفصح ، ولأنه لسان المخاطبين ، وإن كان الحكم عليهم وعلى غيرهم . ولما خلق الله تعالى النوع الإنساني ، وجعله محتاجا لأمور لا يستقل بها ، بل يحتاج فيها إلى المعاونة : كان لا بد للمعاون من الاطلاع على ما في نفس المحتاج بشيء يدل عليه : من لفظ ، أو إشارة ، أو كتابة أو مثال أو نحوه .
إذا تقرر هذا ف ( اللغة ) في الدلالة على ذلك ( أفيد ) أي أكثر فائدة ( من غيرها ) لأن اللفظ يقع على المعدوم والموجود ، والحاضر الحسي والمعنوي ( وأيسر لخفتها ) لأن الحروف كيفيات تعرض للنفس الضروري ، فلا يتكلف لها ما يتكلف لغيرها ( وسببها ) أي سبب وضعها ( حاجة الناس ) إليها . قال إلكيا الهراسي : إن الإنسان لما لم يكن مكتفيا بنفسه في مهماته ومقيمات معاشه : لم يكن له بد من أن يسترفد المعاونة من غيره ولهذا المعنى اتخذ الناس المدن ليجتمعوا ويتعاونوا " انتهى .
قال : بعضهم : ولهذا المعنى توزعت الصنائع وانقسمت الحرف على الخلق . فكل واحد قصر وقته على حرفة يستقل بها ، لأن كل واحد من الخلق لا يمكنه أن يقوم بجملة مقاصده . فحينئذ لا يخلو من أن يكون محل حاجته حاضرة عنده أو غائبة بعيدة عنه فإن كانت حاضرة أشار إليها ، وإن كانت غائبة ، فلا بد له من أن يدل بشيء [ ص: 30 ] على محل حاجته . فوضعوا الكلام دلالة ، ووجدوا اللسان أسرع الأعضاء حركة وقبولا للترداد ، وكان الكلام إنما يدل بالصوت . وكان الصوت إن ترك سدى ، امتد وطال ، وإن قطع تقطع ، قطعوه وجزءوه على حركات أعضاء الإنسان التي يخرج منها الصوت ، وهي من أقصى الرئة إلى منتهى الفم . فوجدوه تسعة وعشرين حرفا ، قسموها على الحلق والصدر ، والشفة واللثة ، ثم لما رأوا أن الكفاية لا تقع بهذه الحروف ركبوا منها ثنائيا وثلاثيا ورباعيا وخماسيا واستثقلوا ما زاد على ذلك .
وقال : وإنما كان نوع الإنسان أكثر حاجة من جميع الحيوانات لأن غيره قد يستقل بنفسه عن جنسه أما الإنسان : فمطبوع على الافتقار إلى جنسه في الاستعانة ، فهو صفة لازمة لطبعه وخلقه ، قائمة في جوهره . الماوردي
وقال ابن مفلح وغيره : سبب وجودها . حاجة الناس ليعرف بعضهم مراد بعض للتساعد والتعاضد بما لا مؤنة فيه لخفتها ، وكثرة فائدتها ، ولا محذور . وهذا من نعم الله تعالى على عباده . فمن تمام نعمه علينا : أن جعل ذلك بالنطق دون غيره ( وهي ) أي ( ألفاظ وضعت لمعان ) يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ، فلا يدخل المهمل ; لأنه لم يوضع لمعنى ( فما الحاجة إليه ) أي فالمعنى الذي يحتاج الإنسان إلى الاطلاع عليه من نفسه دائما ، كطلب ما يدفع به عن نفسه من ألم جوع ، أو عطش ، أو حر ، أو برد ( والظاهر : أو كثرت ) حاجته إليه . كالمعاملات ( لم تخل من ) وضع ( لفظ له ، ويجوز خلوها من لفظ لعكسهما ) وهما ما لا يحتاج إليه ألبتة ، أو تقل الحاجة إليه . قال وحقيقة اللغة ابن حمدان في مقنعه : ما احتاج الناس إليه لم تخل اللغة من لفظ يفيده ، وما لم يحتاجوا إليه يجوز خلوها عما يدل عليه ، وما دعت الحاجة إليه غالبا . فالظاهر عدم خلوها عنه ، وعكسه بعكسه انتهى . قال في شرح التحرير : وحاصله : أن معنا أربعة [ ص: 31 ] أقسام . أحدها : ما احتاجه الناس واضطروا إليه . فلا بد لهم من وضعه . الثاني : عكسه ، ما لا يحتاج إليه ألبتة ، يجوز خلوها عنه ، وخلوها - والله أعلم - أكثر .
الثالث : ما كثرت الحاجة إليه ، الظاهر عدم خلوها ، بل هو كالمقطوع به .
الرابع : عكسه ، ما قلت الحاجة إليه ، يجوز خلوها عنه ، وليس بممتنع .
( والصوت ) الحاصل عند اصطكاك الأجرام ( عرض مسموع ) وسببه انضغاط الهواء بين الجرمين ، فيتموج تموجا شديدا ، فيخرج فيقرع صماخ الأذن فتدركه قوة السمع ، فصوت المتكلم : عرض حاصل عن اصطكاك أجرام الفم ، وهي مخارج الحروف ودفع النفس للهواء ، متكيفا بصورة كلام المتكلم إلى أذن السامع وقولهم " الصوت " عرض ، يتناول جميع الأعراض ، وقولهم " مسموع " خرج جميعها ، إلا ما يدرك بالسمع . ( قلت : بل ) الأخلص في العبارة أن يقال : الصوت ( صفة مسموعة . والله أعلم ) .
قال في شرح التحرير : وإنما بدأنا بالصوت ; لأنه الجنس الأعلى للكلام الذي نحن بصدد الكلام عليه .
( واللفظ ) في اللغة : الرمي ، وفي الاصطلاح ( صوت معتمد على بعض مخارج الحروف ) لأن الصوت لخروجه من الفم صار كالجوهر المرمي منه . فهو ملفوظ . فأطلق اللفظ عليه من باب تسمية المفعول باسم المصدر ، كقولهم : نسج اليمين : أي منسوجه . إذا تقرر هذا ، فاللفظ الاصطلاحي : نوع للصوت ، لأنه صوت مخصوص . ولهذا أخذ الصوت في حد اللفظ ، وإنما يؤخذ في حد الشيء جنس ذلك الشيء .
( والقول ) في اللغة مجرد النطق ، وفي الاصطلاح ( لفظ وضع لمعنى ذهني ) لما كان اللفظ أعم من القول لشموله المهمل ، والمستعمل أخرج المهمل بقوله " وضع لمعنى " واختلف العلماء في قوله " وضع لمعنى " على ثلاثة أقوال . أحدها : ما في المتن ، وهو المعنى الذهني ، وهو ما يتصوره العقل ، سواء طابق ما في الخارج أو لا ، لدوران الألفاظ مع المعاني الذهنية وجودا وعدما . وهذا القول [ ص: 32 ] اختاره الرازي وأتباعه ، وابن حمدان ، وابن قاضي الجبل من أصحابنا . والقول الثاني : أنه وضع للمعنى الخارجي ، أي الموجود في الخارج . وبه قطع . والقول الثالث : أنه وضع للمعنى من حيث هو من غير ملاحظة كونه في الذهن ، أو في الخارج . واختاره أبو إسحاق الشيرازي السبكي الكبير ، ومحل الخلاف في الاسم النكرة .
. وضع ( خاص ، وهو جعل اللفظ دليلا على المعنى ) الموضوع له ، أي جعل اللفظ متهيئا لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلم له على وجه مخصوص . وقولنا ( ولو مجازا ) ليشمل المنقول من شرعي وعرفي . قال في شرح التحرير : وهذا هو الصحيح . ( والوضع ) نوعان
( و ) نوع ( عام ، وهو تخصيص شيء بشيء يدل عليه . كالمقادير ) أي كجعل المقادير دالة على مقدراتها من مكيل وموزون ومعدود ومزروع وغيرها .
وفي كلا النوعين الوضع : أمر متعلق بالواضع ( والاستعمال إطلاق اللفظ وإرادة المعنى ) أي إرادة مسمى اللفظ بالحكم ، وهو الحقيقة ، أو غير مسماه لعلاقة بينهما ، وهو المجاز ، وهو من صفات المتكلم ( والحمل : اعتقاد السامع مراد المتكلم من لفظه ) أو ما اشتمل على مراده . فالمراد : كاعتقاد الحنبلي والحنفي : أن الله تعالى أراد بلفظ القرء : الحيض ، والمالكي والشافعي : أن الله تعالى أراد به : الطهر . وهذا من صفات السامع . فالوضع سابق ، والحمل لاحق ، والاستعمال متوسط .