( فصل ) لما كانت العلوم الضرورية والنظرية لا تدرك بدون العقل ، أخذ في الكلام عليه ، فقال ( العقل : ما يحصل به الميز ) أي بين المعلومات ، قال في شرح التحرير : قاله صاحب روضة الفقه من أصحابنا . وهو شامل لأكثر الأقوال الآتية ، وعن الإمام رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : آلة التمييز والإدراك ( وهو [ ص: 24 ] غريزة ) ، نصا . قال في شرح التحرير : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه العقل غريزة ، وقاله الإمام أحمد ، فقال : العقل غريزة ليس مكتسبا ، بل خلقه الله تعالى يفارق به الإنسان البهيمة ، ويستعد به لقبول العلم ، وتدبير الصنائع الفكرية ، فكأنه نور يقذف في القلب كالعلم الضروري ، والصبا ونحوه حجاب له . قال الحارث المحاسبي : إنه غير مكتسب ، كالضروري ، وقال القاضي أبو يعلى ، من أئمة أصحابنا : ليس بجوهر ولا عرض ولا اكتساب ، وإنما هو فضل من الله تعالى ، قال الحسن بن علي البربهاري الشيخ تقي الدين : هذا يقتضي أنه القوة المدركة كما دل عليه كلام ، لا الإدراك ( و ) هو أيضا ( بعض العلوم الضرورية ) عند أصحابنا ، والأكثر . أحمد
قال في : شرح التحرير : وقد ذهب بعض أصحابنا والأكثر إلى أنه بعض العلوم الضرورية . يستعد بها لفهم دقيق العلوم ، وتدبير الصنائع الفكرية ، وممن قال بذلك من غير أصحابنا : ، القاضي أبو بكر الباقلاني وابن الصباغ ، وسليم الرازي . فخرجت العلوم الكسبية ; لأن العاقل يتصف بكونه عاقلا ، مع انتفاء العلوم النظرية ، وإنما قالوا : بعض العلوم الضرورية . لأنه لو كان جميعها لوجب أن يكون الفاقد للعلم بالمدركات ، لعدم الإدراك المعلق عليها : غير عاقل .
( ومحله ) أي محل العقل ( القلب ) عند أصحابنا والشافعية والأطباء .
واستدلوا لذلك بقوله تعالى ( { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } ) أي عقل . فعبر بالقلب عن العقل ، لأنه محله ، وبقوله تعالى ( { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } ) وبقوله تعالى ( { لهم قلوب لا يفقهون بها } ) فجعل العقل في القلب . وقد تقدم أنه بعض العلوم الضرورية ، والعلوم الضرورية : لا تكون إلا في القلب ( و ) مع هذا ( له اتصال بالدماغ ) قاله التميمي وغيره من أصحابنا وغيرهم . قال في شرح التحرير : والمشهور عن : أنه [ ص: 25 ] في الدماغ . وقاله أحمد الطوفي والحنفية . وقيل : إن قلنا : جوهر ، وإلا في القلب .
( ويختلف ) العقل ( كالمدرك به ) أي بالعقل ، لأنا نشاهد قطعا آثار العقول في الآراء ، والحكم والحيل وغيرها متفاوتة ، وذلك يدل على تفاوت العقول في نفسها . وأجمع العقلاء على صحة قول القائل : فلان أعقل من فلان أو أكمل عقلا وذلك يدل على اختلاف ما يدرك به ولحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء { أبي سعيد } وقال أليس شهادة إحداكن مثل شهادة نصف شهادة الرجل ؟ قلن : بلى . قال : فذلك من نقصان عقلها ابن عقيل والأشاعرة والمعتزلة : العقل لا يختلف ، لأنه حجة عامة يرجع إليها الناس عند اختلافهم ولو تفاوتت العقول ، لما كان كذلك .
وقال من أصحاب الماوردي : إن العقل الغريزي لا يختلف ، وإن التجربي يختلف . وحمل الشافعي الطوفي الخلاف على ذلك . و ( لا ) يختلف ما يدرك ( بالحواس . ولا ) يختلف أيضا ( الإحساس ) قال : الإحساس وما يدرك بالحواس لا يختلف بخلاف ما يدرك بالعقل . فإنه يختلف ما يدرك به . وهو التمييز والفكر . [ فيقل في حق بعضهم ويكثر في حق بعض ] فلهذا يختلف انتهى . قال القاضي أبو يعلى الشيخ تقي الدين : [ وهذا ] يلزم منه أن العلم الحسي ليس من العقل . قال : ولنا في المعرفة الإيمانية في القلب : هل تزيد وتنقص ؟ روايتان . فإذا قيل : إن النظري لا يختلف . فالضروري أولى .
وهذه المسألة من جنس مسألة الإيمان ، وإن الأصوب : أن القوى التي هي الإحساس وسائر العلوم والقوى تختلف انتهى .