ثم إن لما يجمع ذلك من وجوه الاحتياط والإتقان من الجانبين ، وما لم تجتمع فيه هذه الأوصاف نقص من مرتبته بقدر ما فاته منها . أفضل المعارضة : أن يعارض الطالب بنفسه كتابه بكتاب الشيخ مع الشيخ، في حال تحديثه إياه من كتابه؛
وما ذكرناه أولى من إطلاق قوله: "أصدق المعارضة مع نفسك ". أبي الفضل الجارودي الحافظ الهروي
ويستحب أن ينظر معه في نسخته من حضر من السامعين، ممن ليس معه نسخة، لا سيما إذا أراد النقل منها، وقد روي عن أنه سئل يحيى بن معين فقال : "أما عندي فلا يجوز، ولكن عامة الشيوخ هكذا سماعهم". عمن لم ينظر في الكتاب، والمحدث يقرأ، هل يجوز أن يحدث بذلك عنه؟
قلت : وهذا من مذاهب أهل التشديد في الرواية، وسيأتي ذكر مذهبهم إن شاء الله تعالى. والصحيح أن ذلك لا يشترط، وأنه يصح السماع، وإن لم ينظر أصلا في الكتاب حالة القراءة، وأنه لا يشترط أن يقابله بنفسه، بل يكفيه مقابلة نسخته بأصل الراوي، وإن لم يكن ذلك حالة القراءة، وإن كانت المقابلة على يدي غيره إذا كان ثقة موثوقا بضبطه .
قلت : وجائز أن تكون مقابلته بفرع قد قوبل المقابلة المشروطة بأصل شيخه أصل السماع، وكذلك إذا قابل بأصل أصل الشيخ المقابل به أصل الشيخ; لأن الغرض المطلوب أن يكون كتاب الطالب مطابقا لأصل سماعه وكتاب شيخه، فسواء حصل ذلك بواسطة أو بغير واسطة .
ولا يجزئ ذلك عند من قال : "لا يصح مقابلته مع أحد غير نفسه، ولا يقلد غيره، ولا يكون بينه وبين كتاب الشيخ واسطة، وليقابل نسخته بالأصل بنفسه حرفا حرفا حتى يكون على ثقة ويقين من مطابقتها له ". وهذا مذهب متروك وهو من مذاهب أهل التشديد المرفوضة في أعصارنا. والله أعلم .
أما إذا لم يعارض كتابه بالأصل أصلا : فقد سئل الأستاذ عن جواز روايته منه، فأجاز ذلك . وأجازه الحافظ أبو إسحاق الإسفرائيني أيضا، وبين شرطه ، فذكر أنه يشترط أن تكون نسخته نقلت من الأصل، وأن يبين عند الرواية أنه لم يعارض ، وحكى عن شيخه أبو بكر الخطيب أبي بكر البرقاني أنه سأل : "هل للرجل أن يحدث بما كتب عن الشيخ، ولم يعارض بأصله؟" فقال : "نعم، ولكن لا بد أن يبين أنه لم يعارض" قال : وهذا هو مذهب أبا بكر الإسماعيلي أبي بكر البرقاني، فإنه روى لنا أحاديث كثيرة قال فيها: " أخبرنا فلان، ولم أعارض بالأصل ".
قلت : ولا بد من شرط ثالث، وهو : أن يكون ناقل النسخة من الأصل غير سقيم النقل، بل صحيح النقل قليل السقط. والله أعلم .
ثم إنه ينبغي أن يراعي في كتاب شيخه بالنسبة إلى من فوقه مثل ما ذكرنا، أنه يراعيه من كتابه، ولا يكونن كطائفة من الطلبة إذا رأوا سماع شيخ لكتاب قرءوه عليه من أي نسخة اتفقت. والله أعلم .
الحادي عشر : - ويسمى اللحق بفتح الحاء - وهو أن يخط من موضع سقوطه من السطر خطا صاعدا إلى فوقه، ثم يعطفه بين السطرين عطفة يسيرة إلى جهة الحاشية التي يكتب فيها اللحق، ويبدأ في الحاشية بكتبة اللحق مقابلا للخط المنعطف، وليكن ذلك في حاشية ذات اليمين ، وإن كانت تلي وسط الورقة إن اتسعت له، وليكتبه صاعدا إلى أعلى الورقة لا نازلا به إلى أسفل. المختار في كيفية تخريج الساقط في الحواشي
قلت : فإذا كان اللحق سطرين، أو سطورا فلا يبتدئ بسطوره من أسفل إلى أعلى، بل يبتدئ بها من أعلى إلى أسفل، بحيث يكون منتهاها إلى جهة باطن الورقة إذا كان التخريج في جهة اليمين، وإذا كان في جهة الشمال وقع منتهاها إلى جهة طرف الورقة ، ثم يكتب عند انتهاء اللحق ( صح).
ومنهم من يكتب مع ( صح ) ( رجع ) ومنهم من يكتب في آخر اللحق الكلمة المتصلة به داخل الكتاب في موضع التخريج؛ ليؤذن باتصال الكلام، وهذا اختيار بعض أهل الصنعة من أهل المغرب، واختيار القاضي أبي محمد بن خلاد صاحب كتاب (الفاصل بين الراوي والواعي) من أهل المشرق مع طائفة .
وليس ذلك بمرضي؛ إذ رب كلمة تجيء في الكلام مكررة حقيقة، فهذا التكرير يوقع بعض الناس في توهم مثل ذلك في بعضه .
واختار القاضي ابن خلاد أيضا في كتابه أن يمد عطفة خط التخريج من موضعه حتى يلحقه بأول اللحق في الحاشية ، وهذا أيضا غير مرضي؛ فإنه وإن كان فيه زيادة بيان فهو تسخيم للكتاب وتسويد له، لا سيما عند كثرة الإلحاقات. والله أعلم .
وإنما اخترنا كتبة اللحق صاعدا إلى أعلى الورقة؛ لئلا يخرج بعده نقص آخر فلا يجد ما يقابله من الحاشية فارغا له، لو كان كتب الأول نازلا إلى أسفل ، وإذا كتب الأول صاعدا فما يجد بعد ذلك من نقص يجد ما يقابله من الحاشية فارغا له .
وقلنا أيضا يخرجه في جهة اليمين; لأنه لو خرجه إلى جهة الشمال، فربما ظهر من بعده في السطر نفسه نقص آخر، فإن خرجه قدامه إلى جهة الشمال أيضا وقع بين التخريجين إشكال ، وإن خرج الثاني إلى جهة اليمين التقت عطفة تخريج جهة الشمال وعطفة تخريج جهة اليمين، أو تقابلتا، فأشبه ذلك الضرب على ما بينهما، بخلاف ما إذا خرج الأول إلى جهة اليمين فإنه حينئذ يخرج الثاني إلى جهة الشمال، فلا يلتقيان ولا يلزم إشكال، اللهم إلا أن يتأخر النقص إلى آخر السطر، فلا وجه حينئذ إلا تخريجه إلى جهة الشمال لقربه منها، ولانتفاء العلة المذكورة من حيث إنا لا نخشى ظهور نقص بعده .
وإذا كان النقص في أول السطر تأكد تخريجه إلى جهة اليمين؛ لما ذكرناه من القرب مع ما سبق .
وأما ما يخرج في الحواشي - من شرح، أو تنبيه على غلط، أو اختلاف رواية أو نسخة، أو نحو ذلك، مما ليس من الأصل - فقد ذهب القاضي الحافظ عياض رحمه الله إلى أنه لا يخرج لذلك خط تخريج؛ لئلا يدخل اللبس، ويحسب من الأصل، وأنه لا يخرج إلا لما هو من نفس الأصل، لكن ربما جعل على الحرف المقصود بذلك التخريج علامة كالضبة أو التصحيح؛ إيذانا به .
قلت : التخريج أولى وأدل، وفي نفس هذا المخرج ما يمنع الإلباس ، ثم هذا التخريج يخالف التخريج لما هو من نفس الأصل في أن خط ذلك التخريج يقع بين الكلمتين اللتين بينهما سقط الساقط، وخط هذا التخريج يقع على نفس الكلمة التي من أجلها خرج المخرج في الحاشية. والله أعلم .
الثاني عشر : : من شأن الحذاق المتقنين العناية بالتصحيح والتضبيب والتمريض
أما التصحيح : فهو كتابة ( صح ) على الكلام أو عنده، ولا يفعل ذلك إلا فيما صح رواية ومعنى، غير أنه عرضة للشك، أو الخلاف، فيكتب عليه ( صح ) ليعرف أنه لم يغفل عنه، وأنه قد ضبط وصح على ذلك الوجه .
وأما التضبيب ويسمى أيضا التمريض، فيجعل على ما صح وروده كذلك من جهة النقل، غير أنه فاسد لفظا أو معنى، أو ضعيف، أو ناقص، مثل : أن يكون غير جائز من حيث العربية، أو يكون شاذا عند أهلها يأباه أكثرهم، أو مصحفا، أوينقص من جملة الكلام كلمة أو أكثر، وما أشبه ذلك ، فيمد على ما هذا سبيله خط، أوله مثل الصاد، ولا يلزق بالكلمة المعلم عليها؛ كيلا يظن ضربا، وكأنه صاد التصحيح بمدتها دون حائها، كتبت كذلك ليفرق بين ما صح مطلقا من جهة الرواية وغيرها، وبين ما صح من جهة الرواية دون غيرها، فلم يكمل عليه التصحيح ، وكتب حرف ناقص على حرف ناقص؛ إشعارا بنقصه ومرضه مع صحة نقله وروايته، وتنبيها بذلك لمن ينظر في كتابه على أنه قد وقف عليه ونقله على ما هو عليه، ولعل غيره قد يخرج له وجها صحيحا، أو يظهر له بعد ذلك في صحته ما لم يظهر له الآن .
ولو غير ذلك وأصلحه على ما عنده لكان متعرضا لما وقع فيه غير واحد من المتجاسرين الذين غيروا وظهر الصواب فيما أنكروه، والفساد فيما أصلحوه .
وأما تسمية ذلك ضبة: فقد بلغنا عن أبي القاسم إبراهيم بن محمد اللغوي المعروف بابن الإفليلي : أن ذلك لكون الحرف مقفلا بها لا يتجه لقراءة كما أن الضبة مقفل بها. والله أعلم .
قلت : ولأنها لما كانت على كلام فيه خلل أشبهت الضبة التي تجعل على كسر أو خلل، فاستعير لها اسمها، ومثل ذلك غير مستنكر في باب الاستعارات .
: أن يقع في الإسناد إرسال أو انقطاع، فمن عادتهم تضبيب موضع الإرسال والانقطاع، وذلك من قبيل ما سبق ذكره من التضبيب على الكلام الناقص . ومن مواضع التضبيب
ويوجد في بعض أصول الحديث القديمة في الإسناد الذي يجتمع فيه جماعة معطوفة أسماؤهم بعضها على بعض علامة تشبه الضبة فيما بين أسمائهم، فيتوهم من لا خبرة له أنها ضبة وليست بضبة، وكأنها علامة وصل فيما بينها، أثبتت تأكيدا للعطف، خوفا من أن تجعل " عن " مكان الواو. والعلم عند الله تعالى.
ثم إن بعضهم ربما اختصر علامة التصحيح فجاءت صورتها تشبه صورة التضبيب، والفطنة من خير ما أوتيه الإنسان. والله أعلم .
[ ص: 684 ] [ ص: 685 ] [ ص: 686 ] [ ص: 687 ] [ ص: 688 ] [ ص: 689 ] [ ص: 690 ]