ومنها : فهذا يتقاعد عما سبق؛ لعدم احتواء الطالب على ما تحمله، وغيبته عنه ، وجائز له رواية ذلك عنه إذا ظفر بالكتاب، أو بما هو مقابل به على وجه يثق معه بموافقته لما تناولته الإجازة، على ما هو معتبر في الإجازات المجردة عن المناولة . أن يناول الشيخ الطالب كتابه، ويجيز له روايته عنه، ثم يمسكه الشيخ عنده، ولا يمكنه منه،
ثم إن المناولة في مثل هذا لا يكاد يظهر حصول مزية بها على الإجازة الواقعة في معين كذلك من غير مناولة . وقد صار غير واحد من الفقهاء والأصوليين إلى أنه لا تأثير لها ولا فائدة ، غير أن شيوخ أهل الحديث في القديم والحديث - أو من حكي ذلك عنه منهم - يرون لذلك مزية معتبرة، والعلم عند الله تبارك وتعالى.
ومنها : أن يأتي الطالب الشيخ بكتاب أو جزء فيقول: ( هذا روايتك، فناولنيه، وأجز لي روايته ) فيجيبهإلى ذلك، من غير أن ينظر فيه، ويتحقق روايته لجميعه، فهذا لا يجوز، ولا يصح.
فإن كان الطالب موثوقا بخبره ومعرفته جاز الاعتماد عليه في ذلك، وكان ذلك إجازة جائزة، كما جاز في القراءة على الشيخ الاعتماد على الطالب، حتى يكون هو القارئ من الأصل إذا كان موثوقا به معرفة ودينا .
قال رحمه الله: "ولو قال: حدث بما في هذا الكتاب عني إن كان من حديثي مع براءتي من الغلط والوهم ، كان ذلك جائزا حسنا" والله أعلم . الخطيب أبو بكر
الثاني : المناولة المجردة عن الإجازة:
بأن يناوله الكتاب كما تقدم ذكره أولا، ويقتصر على قوله: " هذا من حديثي، أو من سماعاتي" ولا يقول: " اروه عني، أو أجزت لك روايته عني" ونحو ذلك، فهذه مناولة مختلة، لا تجوز الرواية بها، وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على المحدثين الذين أجازوها وسوغوا الرواية بها .
وحكى عن طائفة من أهل العلم أنهم صححوها، وأجازوا الرواية بها، وسنذكر - إن شاء الله سبحانه وتعالى - قول من أجاز الرواية بمجرد إعلام الشيخ الطالب أن هذا الكتاب سماعه من فلان. وهذا يزيد على ذلك ويترجح بما فيه من المناولة، فإنها لا تخلو من إشعار بالإذن في الرواية. والله أعلم . الخطيب
القول في عبارة الراوي بطريق المناولة والإجازة :
حكي عن قوم من المتقدمين ومن بعدهم : أنهم جوزوا إطلاق " حدثنا وأخبرنا" في الرواية بالمناولة، حكي ذلك عن الزهري، وغيرهما، وهو لائق بمذهب جميع من سبقت الحكاية عنهم : أنهم جعلوا عرض المناولة المقرونة بالإجازة سماعا . ومالك،
وحكي أيضا عن قوم مثل ذلك في الرواية بالإجازة .
وكان الحافظ - صاحب التصانيف الكثيرة في علم الحديث - يطلق ( أخبرنا) فيما يرويه بالإجازة . روينا عنه أنه قال : أنا إذا قلت: ( حدثنا) فهو سماعي، وإذا قلت: ( أخبرنا) على الإطلاق فهو إجازة من غير أن أذكر فيه ( إجازة، أو كتابة، أو كتب إلي، أو أذن لي في الرواية عنه). أبو نعيم الأصبهاني
وكان - صاحب التصانيف في علم الخبر - يروي أكثر ما في كتبه إجازة من غير سماع، ويقول في الإجازة: ( أخبرنا) ولا يبينها، وكان ذلك - فيما حكاه أبو عبيد الله المرزباني الأخباري - مما عيب به . الخطيب
والصحيح - والمختار الذي عليه عمل الجمهور، وإياه اختار أهل التحري، والورع - المنع في ذلك من إطلاق ( حدثنا وأخبرنا) ونحوهما من العبارات، وتخصيص ذلك بعبارة تشعر به بأن يقيد هذه العبارات فيقول : ( أخبرنا، أو حدثنا فلان مناولة وإجازة، أو أخبرنا إجازة، أو أخبرنا مناولة، أو أخبرنا إذنا، أو في إذنه، أو فيما أذن لي فيه، أو فيما أطلق لي روايته عنه ). أو يقول : ( أجاز لي فلان، أو أجازني فلان كذا وكذا، أو ناولني فلان) وما أشبه ذلك من العبارات .
وخصص قوم الإجازة بعبارات لم يسلموا فيها من التدليس، أو طرف منه، كعبارة من يقول في الإجازة ( أخبرنا مشافهة ) إذا كان قد شافهه بالإجازة لفظا، كعبارة من يقول: ( أخبرنا فلان كتابة، أو فيما كتب إلي، أو في كتابه ) إذا كان قد أجازه بخطه . فهذا - وإن تعارفه في ذلك طائفة من المحدثين المتأخرين - فلا يخلو عن طرف من التدليس؛ لما فيه من الاشتراك والاشتباه بما إذا كتب إليه ذلك الحديث بعينه .
وورد عن أنه خصص الإجازة بقوله: " خبرنا " بالتشديد، والقراءة عليه بقوله " أخبرنا". واصطلح قوم من المتأخرين على إطلاق ( أنبأنا) في الإجازة، وهو الأوزاعي صاحب ( الوجازة في الإجازة). الوليد بن بكر
وقد كان ( أنبأنا ) عند القوم - فيما تقدم - بمنزلة (أخبرنا) وإلى هذا نحا الحافظ المتقن إذ كان يقول: " أنبأني فلان إجازة " وفيه أيضا رعاية لاصطلاح المتأخرين. والله أعلم . أبو بكر البيهقي؛
وروينا عن - رحمه الله - أنه قال : (الذي أختاره، وعهدت عليه أكثر مشايخي، وأئمة عصري أن يقول فيما عرض على المحدث، فأجاز له روايته شفاها: " أنبأني فلان" وفيما كتب إليه المحدث من مدينة، ولم يشافهه بالإجازة: " كتب إلي فلان"). الحاكم أبي عبد الله الحافظ
قال: "وروينا عن أبي عمرو بن أبي جعفر بن حمدان النيسابوري قال : سمعت أبي يقول : كل ما قال " قال لي فلان" فهو عرض ومناولة . البخاري:
قلت : وورد عن قوم من الرواة التعبير عن الإجازة بقول: " أخبرنا فلان أن فلانا حدثه أو أخبره " وبلغنا ذلك عن الإمام أنه اختاره، أو حكاه، وهذا اصطلاح بعيد عن الإشعار بالإجازة، وهو فيما إذا سمع منه الأستاذ فحسب، وأجاز له ما رواه - قريب، فإن كلمة ( أن ) في قوله: "أخبرني فلان أن فلانا أخبره " فيها إشعار بوجود أصل الإخبار، وإن أجمل المخبر به، ولم يذكره تفصيلا . أبي سليمان الخطابي
قلت : وكثيرا ما يعبر الرواة المتأخرون عن الإجازة الواقعة في رواية من فوق الشيخ المسمع بكلمة ( عن ) فيقول أحدهم إذا سمع على شيخ بإجازته عن شيخه: ( قرأت على فلان، عن فلان) وذلك قريب فيما إذا كان قد سمع منه بإجازته عن شيخه، إن لم يكن سماعا فإنه شاك، وحرف ( عن ) مشترك بين السماع والإجازة، صادق عليهما. والله أعلم .
ثم اعلم أن المنع من إطلاق ( حدثنا وأخبرنا) في الإجازة لا يزول بإباحة المجيز لذلك، كما اعتاده قوم من المشايخ من قولهم في إجازتهم لمن يجيزون له، إن شاء قال: ( حدثنا) وإن شاء قال: ( أخبرنا) فليعلم ذلك، والعلم عند الله تبارك وتعالى.
القسم الخامس : من أقسام طرق نقل الحديث وتلقيه : المكاتبة
وهي أن يكتب الشيخ إلى الطالب وهو غائب شيئا من حديثه بخطه، أو يكتب له ذلك وهو حاضر . ويلتحق بذلك ما إذا أمر غيره بأن يكتب له ذلك عنه إليه، وهذا القسم ينقسم أيضا إلى نوعين :
أحدهما : أن تتجرد المكاتبة عن الإجازة .
والثاني : أن تقترن بالإجازة، بأن يكتب إليه ويقول: ( أجزت لك ما كتبته لك، أو ما كتبت به إليك) أو نحو ذلك من عبارات الإجازة .
أما الأول : وهو ما إذا اقتصر على المكاتبة فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين والمتأخرين، منهم: ، أيوب السختياني ومنصور ، ، وقاله غير واحد من الشافعيين، وجعلها والليث بن سعد منهم أقوى من الإجازة، وإليه صار غير واحد من الأصوليين . أبو المظفر السمعاني
وأبى ذلك قوم آخرون ، وإليه صار من الشافعيين وقطع به في كتابه ( الحاوي ). القاضي الماوردي،
والمذهب الأول هو الصحيح المشهور بين أهل الحديث ، وكثيرا ما يوجد في مسانيدهم ومصنفاتهم قولهم: " كتب إلي فلان قال : ثنا فلان" والمراد به هذا . وذلك معمول به عندهم معدود في المسند الموصول . وفيها إشعار قوي بمعنى الإجازة، فهي وإن لم تقترن بالإجازة لفظا فقد تضمنت الإجازة معنى ، ثم يكفي في ذلك أن يعرف المكتوب إليه خط الكاتب، وإن لم تقم البينة عليه .
ومن الناس من قال : "الخط يشبه الخط فلا يجوز الاعتماد على ذلك ". وهذا غير مرضي; لأن ذلك نادر، والظاهر أن خط الإنسان لا يشتبه بغيره، ولا يقع فيه إلباس .
ثم ذهب غير واحد من علماء المحدثين وأكابرهم، منهم ، الليث بن سعد ومنصور : إلى جواز إطلاق ( حدثنا وأخبرنا) في الرواية بالمكاتبة ، والمختار : قول من يقول فيها: ( كتب إلي فلان، قال : حدثنا فلان بكذا وكذا ) وهذا هو الصحيح اللائق بمذاهب أهل التحري والنزاهة . وهكذا لو قال: (أخبرني به مكاتبة، أو كتابة ) ونحو ذلك من العبارات (والله أعلم).
أما المكاتبة المقرونة بلفظ الإجازة فهي في الصحة، والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة. والله أعلم .
القسم السادس - فهذا عند كثيرين طريق مجوز لرواية ذلك عنه ونقله . من أقسام الأخذ ووجوه النقل: إعلام الراوي للطالب بأن هذا الحديث، أو هذا الكتاب سماعه من فلان، أو روايته ، مقتصرا على ذلك، من غير أن يقول: ( اروه عني، أو أذنت لك في روايته ) أو نحو ذلك
حكي ذلك عن وطوائف من المحدثين، والفقهاء، والأصليين والظاهريين، وبه قطع ابن جريج، من الشافعيين، واختاره ونصره أبو نصر بن الصباغ في كتاب ( الوجازة في تجويز الإجازة ). أبو العباس الوليد بن بكر الغمري المالكي
وحكى صاحب كتاب ( الفاصل بين الراوي والواعي) عن بعض أهل الظاهر أنه ذهب إلى ذلك، واحتج له ، وزاد فقال : "لو قال له: هذه روايتي، لكن لا تروها عني ، كان له أن يرويها عنه كما لو سمع منه حديثا، ثم قال له: لا تروه عني، ولا أجيزه لك ، لم يضره ذلك ". القاضي أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي
ووجه مذهب هؤلاء اعتبار ذلك بالقراءة على الشيخ، فإنه إذا قرأ عليه شيئا من حديثه وأقر بأنه روايته عن فلان ابن فلان، جاز له أن يرويه عنه، وإن لم يسمعه من لفظه، ولم يقل له: "اروه عني، أو أذنت لك في روايته عني " والله أعلم .
والمختار ما ذكر عن غير واحد من المحدثين وغيرهم من أنه لا تجوز الرواية بذلك ، وبه قطع الشيخ أبو حامد الطوسي من الشافعيين، ولم يذكر غير ذلك ، وهذا لأنه قد يكون ذلك مسموعه وروايته، ثم لا يأذن له في روايته عنه لكونه لا يجوز روايته لخلل يعرفه فيه، ولم يوجد منه التلفظ به، ولا ما يتنزل منزلة تلفظه به، وهو تلفظ القارئ عليه وهو يسمع، ويقر به حتى يكون قول الراوي عنه السامع ذلك ( حدثنا وأخبرنا) صدقا، وإن لم يأذن له فيه ، وإنما هذا كالشاهد إذا ذكر في غير مجلس الحكم شهادته بشيء فليس لمن سمعه أن يشهد على شهادته، إذا لم يأذن له، ولم يشهده على شهادته . وذلك مما تساوت فيه الشهادة والرواية; لأن المعنى يجمع بينهما في ذلك، وإن افترقا في غيره .
ثم إنه يجب عليه العمل بما ذكره له إذا صح إسناده، وإن لم تجز له روايته عنه; لأن ذلك يكفي فيه صحته في نفسه. والله أعلم .
القسم السابع : أن يوصي الراوي بكتاب يرويه عند موته، أو سفره لشخص . من أقسام الأخذ والتحمل : الوصية بالكتب
فروي عن بعض السلف رضي الله تعالى عنهم أنه جوز بذلك رواية الموصى له لذلك عن الموصي الراوي . وهذا بعيد جدا، وهو إما زلة عالم، أو متأول على أنه أراد الرواية على سبيل الوجادة التي يأتي شرحها، إن شاء الله تعالى.
وقد احتج بعضهم لذلك، فشبهه بقسم الإعلام، وقسم المناولة، ولا يصح ذلك؛ فإن لقول من جوز الرواية بمجرد الإعلام والمناولة مستندا ذكرناه، لا يتقرر مثله ولا قريب منه هاهنا. والله أعلم .
القسم الثامن: : الوجادة
وهي مصدر لـ (وجد يجد) مولد غير مسموع من العرب . روينا عن المعافى بن زكريا النهرواني العلامة في العلوم أن المولدين فرعوا قولهم: ( وجادة) فيما أخذ من العلم من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة، من تفريق العرب بين مصادر ( وجد ) للتمييز بين المعاني المختلفة، يعني قولهم " وجد ضالته وجدانا، ومطلوبه وجودا " وفي الغضب " موجدة " وفي الغنى " وجدا " وفي الحب "وجدا".
[ ص: 658 ] [ ص: 659 ] [ ص: 660 ] [ ص: 661 ] [ ص: 662 ] [ ص: 663 ] [ ص: 664 ] [ ص: 665 ] [ ص: 666 ]