ووجد بخط أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي الموصلي الحافظ : " أجزت رواية ذلك لجميع من أحب أن يروي ذلك عني ".
أما إذا قال: ( أجزت لفلان كذا وكذا إن شاء روايته عني، أو لك إن شئت، أو أحببت، أو أردت ) فالأظهر الأقوى أن ذلك جائز؛ إذ قد انتفت فيه الجهالة وحقيقة التعليق، ولم يبق سوى صيغته، والعلم عند الله تعالى.
والنوع الخامس من أنواع الإجازة : . ولنذكر معه الإجازة للمعدوم . الإجازة للطفل الصغير
هذا نوع خاض فيه قوم من المتأخرين، واختلفوا في جوازه، ومثاله : أن يقول: (أجزت لمن يولد لفلان ) فإن عطف المعدوم في ذلك على الموجود بأن قال : (أجزت لفلان ولمن يولد له، أو أجزت لك ولولدك، وعقبك ما تناسلوا) كان ذلك أقرب إلى الجواز من الأول . ولمثل ذلك أجاز أصحاب - رضي الله عنه - في الوقف القسم الثاني دون الأول . الشافعي
وقد أجاز أصحاب مالك، - رضي الله عنهما - أو من قال ذلك منهم في الوقف القسمين كليهما . وأبي حنيفة
وفعل هذا الثاني في الإجازة من المحدثين المتقدمين فإنا روينا عنه أنه سئل الإجازة، فقال : "قد أجزت لك، ولأولادك، ولحبل الحبلة" يعني الذين لم يولدوا بعد . أبو بكر ابن أبي داود السجستاني،
وأما الإجازة للمعدوم ابتداء، من غير عطف على موجود : فقد أجازها ، وذكر أنه سمع الخطيب أبو بكر الحافظ أبا يعلى بن الفراء الحنبلي، وأبا الفضل بن عمروس المالكي يجيزان ذلك .
وحكى جواز ذلك أيضا ، فقال : ذهب قوم إلى أنه يجوز أن يجيز لمن لم يخلق ، قال : "وهذا إنما ذهب إليه من يعتقد أن الإجازة إذن في الرواية لا محادثة " ثم بين بطلان هذه الإجازة، وهو الذي استقر عليه رأي شيخه أبو نصر بن الصباغ الفقيه . القاضي أبي الطيب الطبري الإمام
وذلك هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره; لأن الإجازة في حكم الإخبار جملة بالمجاز، على ما قدمناه في بيان صحة أصل الإجازة، فكما لا يصح الإخبار للمعدوم لا تصح الإجازة للمعدوم . ولو قدرنا أن الإجازة إذن فلا يصح أيضا ذلك للمعدوم، كما لا يصح الإذن في باب الوكالة للمعدوم؛ لوقوعه في حالة لا يصح فيها المأذون فيه من المأذون له .
وهذا أيضا يوجب بطلان الإجازة للطفل الصغير الذي لا يصح سماعه .
قال : سألت الخطيب عن الإجازة للطفل الصغير، هل يعتبر في صحتها سنه أو تمييزه، كما يعتبر ذلك في صحة سماعه؟ فقال : لا يعتبر ذلك ، قال : فقلت له : إن بعض أصحابنا قال : لا تصح الإجازة لمن لا يصح سماعه ، فقال : قد يصح أن يجيز للغائب عنه، ولا يصح السماع له . القاضي أبا الطيب الطبري
واحتج لصحتها للطفل بأن الإجازة إنما هي إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه، والإباحة تصح للعاقل وغير العاقل . الخطيب
قال : وعلى هذا رأينا كافة شيوخنا يجيزون للأطفال الغيب عنهم، من غير أن يسألوا عن مبلغ أسنانهم، وحال تمييزهم ، ولم نرهم أجازوا لمن لم يكن مولودا في الحال .
قلت : كأنهم رأوا الطفل أهلا لتحمل هذا النوع من أنواع تحمل الحديث؛ ليؤدي به بعد حصول أهليته؛ حرصا على توسيع السبيل إلى بقاء الإسناد الذي اختصت به هذه الأمة، وتقريبه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
النوع السادس من أنواع الإجازة : . إجازة ما لم يسمعه المجيز، ولم يتحمله أصلا بعد؛ ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز بعد ذلك
أخبرني من أخبر عن من فضلاء وقته القاضي عياض بن موسى بالمغرب ، قال : "هذا لم أر من تكلم عليه من المشايخ، ورأيت بعض المتأخرين والعصريين يصنعونه" ثم حكى عن قاضي أبي الوليد يونس بن مغيث قرطبة أنه سئل الإجازة لجميع ما رواه إلى تاريخها، وما يرويه بعد، فامتنع من ذلك، فغضب السائل ، فقال له بعض أصحابه : يا هذا، يعطيك ما لم يأخذه؟ هذا محال! قال عياض : "وهذا هو الصحيح ".
قلت : ينبغي أن يبنى هذا على أن الإجازة في حكم الإخبار بالمجاز جملة، أو هي إذن، فإن جعلت في حكم الإخبار لم تصح هذه الإجازة؛ إذ كيف يخبر بما لا خبر عنده منه؟! وإن جعلت إذنا انبنى هذا على الخلاف في تصحيح الإذن في باب الوكالة فيما لم يملكه الآذن الموكل بعد، مثل أن يوكل في بيع العبد الذي يريد أن يشتريه . وقد أجاز ذلك بعض أصحاب . الشافعي
والصحيح بطلان هذه الإجازة ، وعلى هذا يتعين على من يريد أن يروي بالإجازة عن شيخ أجاز له جميع مسموعاته مثلا أن يبحث حتى يعلم أن ذاك الذي يريد روايته عنه مما سمعه قبل تاريخ الإجازة .
وأما إذا قال : "أجزت لك ما صح ويصح عندك من مسموعاتي" فهذا ليس من هذا القبيل ، وقد فعله وغيره ، وجائز أن يروي بذلك عنه ما صح عنده بعد الإجازة أنه سمعه قبل الإجازة ، ويجوز ذلك، وإن اقتصر على قوله: " ما صح عندك " ولم يقل: " وما يصح " لأن المراد "أجزت لك أن تروي عني ما صح عندك " فالمعتبر إذا فيه صحة ذلك عنده حالة الرواية. والله أعلم . الدارقطني،
النوع السابع من أنواع الإجازة : إجازة المجاز .
مثل أن يقول الشيخ: ( أجزت لك مجازاتي ، أو أجزت لك رواية ما أجيز لي روايته ) فمنع من ذلك بعض من لا يعتد به من المتأخرين .
والصحيح، والذي عليه العمل، أن ذلك جائز، ولا يشبه ذلك ما امتنع من توكيل الوكيل بغير إذن الموكل ، ووجدت عن أبي عمرو السفاقسي الحافظ المغربي قال : سمعت يقول : "الإجازة على الإجازة قوية جائزة". أبا نعيم الحافظ - يعني الأصبهاني -
وحكى تجويز ذلك عن الحافظ الإمام الخطيب الحافظ والحافظ أبي الحسن الدارقطني، أبي العباس المعروف بابن عقدة الكوفي، وغيرهما ، وقد كان الفقيه الزاهد نصر بن إبراهيم المقدسي يروي بالإجازة عن الإجازة، حتى ربما والى في روايته بين إجازات ثلاث .
وينبغي لمن يروي بالإجازة عن الإجازة أن يتأمل كيفية إجازة شيخ شيخه، ومقتضاها، حتى لا يروي بها ما لم يندرج تحتها ، فإذا كان مثلا صورة إجازة شيخ شيخه ( أجزت له ما صح عنده من سماعاتي) فرأى شيئا من مسموعات شيخ شيخه، فليس له أن يروي ذلك عن شيخه عنه، حتى يستبين أنه مما كان قد صح عند شيخه كونه من سماعات شيخه الذي تلك إجازته، ولا يكتفي بمجرد صحة ذلك عنده الآن، عملا بلفظه وتقييده ، ومن لا يتفطن لهذا وأمثاله يكثر عثاره. والله أعلم .
هذه أنواع الإجازة التي تمس الحاجة إلى بيانها، ويتركب منها أنواع أخر سيتعرف المتأمل حكمها مما أمليناه إن شاء الله تعالى.
ثم إنا ننبه على أمور :
أحدها : روينا عن الأديب المصنف رحمه الله قال : "معنى الإجازة في كلام العرب مأخوذ من جواز الماء الذي يسقاه المال من الماشية والحرث، يقال منه : استجزت فلانا، فأجازني، إذا أسقاك ماء لأرضك أو ماشيتك ، كذلك طالب العلم يسأل العالم أن يجيزه علمه، فيجيزه إياه" . أبي الحسين أحمد بن فارس
قلت : فللمجيز على هذا أن يقول: " أجزت فلانا مسموعاتي أو مروياتي " فيعديه بغير حرف جر من غير حاجة إلى ذكر لفظ الرواية، أو نحو ذلك ، ويحتاج إلى ذلك من يجعل الإجازة بمعنى التسويغ، والإذن، والإباحة، وذلك هو المعروف، فيقول: ( أجزت لفلان رواية مسموعاتي) مثلا، ومن يقول منهم: ( أجزت له مسموعاتي) فعلى سبيل الحذف الذي لا يخفى نظيره. والله أعلم .
الثاني : إنما تستحسن الإجازة إذا كان المجيز عالما بما يجيز، والمجاز له من أهل العلم; لأنها توسع وترخيص، يتأهل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها ، وبالغ بعضهم في ذلك فجعله شرطا فيها . وحكاه عن أبو العباس الوليد بن بكر المالكي، رضي الله عنه. مالك
وقال الحافظ أبو عمر: "الصحيح أنها لا تجوز إلا لماهر بالصناعة، وفي شيء معين لا يشكل إسناده" والله أعلم .
الثالث : ينبغي للمجيز إذا كتب إجازته أن يتلفظ بها، فإن اقتصر على الكتابة كان ذلك إجازة جائزة، إذا اقترن بقصد الإجازة ، غير أنها أنقص مرتبة من الإجازة الملفوظ بها ، وغير مستبعد تصحيح ذلك بمجرد هذه الكتابة في باب الرواية، الذي جعلت فيه القراءة على الشيخ مع أنه لم يلفظ بما قرئ عليه إخبارا منه بما قرئ عليه، على ما تقدم بيانه. والله أعلم .
القسم الرابع: من أقسام طرق تحمل الحديث وتلقيه : المناولة
وهي على نوعين :
أحدهما : المناولة المقرونة بالإجازة، وهي أعلى أنواع الإجازة على الإطلاق . ولها صور :
منها : أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه، أو فرعا مقابلا به، ويقول: ( هذا سماعي، أو روايتي عن فلان، فاروه عني، أو أجزت لك روايته عني) ثم يملكه إياه . أو يقول: ( خذه، وانسخه، وقابل به، ثم رده إلي ) أو نحو هذا.
ومنها : أن يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب، أو جزء من حديثه، فيعرضه عليه، فيتأمله الشيخ وهو عارف متيقظ، ثم يعيده إليه، ويقول له: ( وقفت على ما فيه، وهو حديثي عن فلان، أو روايتي عن شيوخي فيه، فاروه عني، أو أجزت لك روايته عني) وهذا قد سماه غير واحد من أئمة الحديث ( عرضا) وقد سبقت حكايتنا في القراءة على الشيخ أنها تسمى عرضا ، فلنسم ذلك ( عرض القراءة) وهذا ( عرض المناولة) والله أعلم .
وهذه المناولة المقترنة بالإجازة : حالة محل السماع عند ، وجماعة من أئمة أصحاب الحديث . وحكى مالك - في عرض المناولة المذكور - عن كثير من المتقدمين : أنه سماع . الحاكم أبو عبد الله الحافظ النيسابوري
وهذا مطرد في سائر ما يماثله من صور المناولة المقرونة بالإجازة : فممن حكى ذلك عنهم: الحاكم ابن شهاب الزهري، ، وربيعة الرأي ، ويحيى بن سعيد الأنصاري في آخرين من المدنيين، ومالك بن أنس الإمام، ، ومجاهد ، وأبو الزبير في جماعة من المكيين ، وابن عيينة وعلقمة، وإبراهيم النخعيان، في جماعة من الكوفيين، والشعبي وقتادة، وأبو العالية، في طائفة من البصريين، وأبو المتوكل الناجي وابن وهب، وابن القاسم، وأشهب في طائفة من المصريين، وآخرون من الشاميين، والخراسانيين.
ورأى طائفة من مشايخه على ذلك، وفي كلامه بعض التخليط من حيث كونه خلط بعض ما ورد في ( عرض القراءة ) بما ورد في ( عرض المناولة ) وساق الجميع مساقا واحدا . الحاكم
والصحيح : أن ذلك غير حال محل السماع، وأنه منحط عن درجة التحديث لفظا، والإخبار قراءة .
وقد قال في هذا العرض : "أما فقهاء الإسلام الذين أفتوا في الحلال والحرام فإنهم لم يروه سماعا، وبه قال الحاكم الشافعي، والأوزاعي، والبويطي، والمزني، وأبو حنيفة، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وابن المبارك، ويحيى بن يحيى، . قال : "وعليه عهدنا أئمتنا، وإليه ذهبوا، وإليه نذهب" والله أعلم . وإسحاق بن راهويه"
[ ص: 649 ] [ ص: 650 ] [ ص: 651 ] [ ص: 652 ] [ ص: 653 ] [ ص: 654 ] [ ص: 655 ] [ ص: 656 ]