قال : فقد جاءت هذه الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتواترت في الرخصة في بيع العرايا وقبلها أهل العلم جميعا ، ولم يختلفوا في صحة مجيئها ، وتنازعوا في تأويلها . فقال قوم : العرايا أن الرجل يكون له النخلة والنخلتان ، في وسط النخل الكثير ، لرجل آخر . قالوا : وقد كان أبو جعفر أهل المدينة ، إذا كان وقت الثمار ، خرجوا بأهليهم إلى حوائطهم ، فيجيء صاحب النخلة أو النخلتين بأهله ، فيضر ذلك بأهل النخل الكثير . فرخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحب النخل الكثير أن يعطي صاحب النخلة أو النخلتين خرص ما له من ذلك تمرا ، لينصرف هو وأهله عنه ، ويخلص تمر الحائط كله لصاحب النخل الكثير ، فيكون فيه هو وأهله . وقد روي هذا القول عن - رحمه الله - . مالك بن أنس
وكان - رحمه الله - يقول فيما سمعت أبو حنيفة أحمد بن أبي عمران ، يذكر أنه سمعه من ، عن [ ص: 31 ] محمد بن سماعة ، عن أبي يوسف قال : - معنى ذلك عندنا - أن يعري الرجل الرجل ثمر نخلة من نخله فلا يسلم ذلك إليه حتى يبدو له ، فرخص له أن يحبس ذلك ، ويعطيه مكانه خرصه تمرا . وكان هذا التأويل أشبه وأولى مما قال أبي حنيفة ، لأن العرية إنما هي العطية . مالك
ألا يرى إلى الذي مدح الأنصار كيف مدحهم ، إذ يقول :
ليســــت بسنهاء ولا رجبية ولكــن عرايــا في السـنين الجوائح ،
أي أنهم كانوا يعرونها في السنين الجوائح .فلو كانت العرية كما ذهب إليه ، إذا لما كانوا ممدوحين بها ، إذ كانوا يعطون كما يعطون ، ولكن العرية بخلاف ما قال . فإن قال قائل : فقد ذكرت في حديث مالك زيد بن ثابت - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر بالتمر ، ورخص في العرايا ، فصارت العرايا في هذا الحديث أيضا هي بيع ثمر بتمر ، قيل له : ليس في الحديث من ذلك شيء ، إنما فيه ذكر الرخصة في العرايا ، مع ذكر النهي عن بيع الثمر بالتمر ، وقد يقرن الشيء بالشيء وحكمهما مختلف . فإن قال قائل : فقد ذكر التوقيف في حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - على خمسة أوسق ، وفي ذكره ذلك ما ينفي أن يكون حكم ما هو أكثر من ذلك ، كحكمه . قيل له : ما فيه ما ينفي شيئا مما ذكرت ، وإنما يكون ذلك كذلك ، لو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يكون العرية إلا في خمسة أوسق ، أو فيما دون خمسة أوسق " . فإذا كان الحديث إنما فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق ، أو فيما دون خمسة أوسق ، فذلك يحتمل أن يكون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص فيه لقوم في عرية لهم هذا مقدارها . فنقل - رضي الله عنه - ذلك ، وأخبر بالرخصة فيما كانت ، ولا ينفي ذلك أن يكون تلك الرخصة جارية فيما هو أكثر من ذلك . فإن قال قائل : ففي حديث أبو هريرة عمر وجابر - رضي الله عنهما - " إلا أنه رخص في العرايا " فصار ذلك مستثنى من بيع الثمر بالتمر . فثبت بذلك أنه بيع ثمر بتمر . قيل له : قد يجوز أن يكون قصد بذلك إلى المعرى له فرخص له أن يأخذ تمرا بدلا من تمر في رءوس النخل ؛ لأنه يكون بذلك ، في معنى البائع ، وذلك له حلال ، فيكون الاستثناء لهذه العلة . وفي حديث سهل بن أبي حثمة : " إلا أنه رخص في بيع العرية ، بخرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا " فقد ذكر للعرية أهلا ، وجعلهم يأكلونها رطبا ، ولا يكون ذلك إلا وملكها الذين عادت إليهم بالبدل الذي أخذ منهم ، فذلك يثبت قول . أبي حنيفة
فإن قال قائل : لو كان تأويل هذه الآثار ، ما ذهب إليه - رحمة الله عليه - لما كان لذكر الرخصة فيها معنى . أبو حنيفة
[ ص: 32 ] قيل له : بل له معنى صحيح ، ولكن قد اختلف فيه ما هو . فقال عيسى بن أبان : معنى الرخصة في ذلك ، أن الأموال كلها لا يملك بها إبدالا ، إلا من كان مالكها ، لا يبيع رجل ما لا يملك ببدله ، فيملك ذلك البدل . وإنما يملك ذلك البدل إذا ملكه ، بصحة ملكه للشيء الذي هو بدل منه . قال : فالمعرى ، لم يكن ملك العرية ، لأنه لم يكن قبضها ، والتمر الذي يأخذه بدلا منها ، قد جعل طيبا له في هذا الحديث ، وهو بدل من رطب لم يكن ملكه . قال : فهذا هو الذي قصد بالرخصة إليه . وقال غيره : الرخصة أن الرجل إذا أعرى الرجل الشيء من ثمره ، وقد وعده أن يسلمه إليه ليملكه المسلم إليه بقبضه إياه ، وعلى الرجل في دينه أن يفي بوعده ، وإن كان غير مأخوذ به في الحكم ، فرخص للمعري أن يحتبس ما أعرى ، بأن يعطي المعرى خرصه تمرا ، بدلا منه ، من غير أن يكون آثما ، ولا في حكم من اختلف موعدا ، فهذا موضع الرخصة .
وهذا التأويل الذي ذكرناه عن - رحمة الله عليه - أولى مما حمل عليه وجه هذا الحديث ، لأن الآثار قد جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواترة ، بالنهي عن بيع الثمر بالتمر . أبي حنيفة